الاعتذار

     إنّ قصيدةَ الاعتذارِ في الموروثِ العربيّ تتجاوزُ كونَها موضوعاً شعريّاً عابراً إلى أن تكونَ غرضاً شعريّاً تامّاً شأنُها شأنُ قصيدةِ الفخرِ أو المديحِ أو الغزلِ أو الرّثاء أو الهجاء. ولم تنشَأْ هذه القصيدة إلّا ضمنَ عواملَ سياسيّةٍ واجتماعيّةٍ معقَّدةٍ تتطلّبُ التّماسّ المباشَرَ بينَ الشَّاعرِ والسُّلطة، وتتطلّبُ من وراءِ ذلك الشُّعورَ بالرَّهبةِ والخوفِ وضرورةِ البقاء.

     ويتّفقُ النقّادُ ومؤرّخو الأدبِ عَلى أنّ النّابغةَ الذُّبيانيّ كانَ أوّلَ مَن أَرسى قواعدَ الاعتذار بصفتِهِ غرضاً شعريّاً خالصاً، ولم يكُن هذا الغرضُ لينشَأَ لولا توتُّرُ العلاقةِ بينَهُ وبينَ النُّعمانِ بنِ المنذرِ ملكِ الحيرة، ومِن ثَمّ فرار النّابغةِ إلى الشّامِ ضمنَ شعورٍ متّصلٍ بالخوفِ والرّهبة عبّرَ عنهُ قائلاً:

وإنَّــكَ كاللَّيــلِ الَّـذي هُـوَ مُـدْرِكي وإنْ خِلــتُ أنَّ الْمُنْتَـأَى عَنْـكَ واسـِعٌ

      وهكذا أنشأَ النّابغةُ مجموعةً من القصائدِ المؤسّسةِ لفنّ الاعتذار، وهي قصائدُ لم تُعرَف قبلَه ما خلا بعض النّماذج لعديّ بن زيد في الاعتذار للنّعمان بن المنذر أيضاً. وقد تميّزت هذه القصائد من حيثُ بناؤُها الفنّيّ بتقاطعِها معَ غرضِ المديحِ وافتراقِها عنه في آن؛ فالمديحُ قصيدةٌ خالِصَةٌ للممدوحِ لا يظهرُ فيها الشّاعرُ نفسُه إلّا ظهوراً عابراً، أمّا الاعتذارُ فهي قصيدةٌ تربِطُ بين الشّاعرِ وممدوحِهِ بخَيطٍ من التوتُّرِ ومحاولةِ الاستعِطافِ ورأبِ الصَّدع، وهيَ بذلك تنبُعُ من حاجةِ الشّاعرِ الماسّةِ إلى الإبقاءِ عَلى نفسِهِ ضمنَ مسافةٍ مأمونةٍ من السُّلطَة، وضمنَ شعورٍ طاغٍ بالانقيادِ لها والنّزولِ في حكمِها.

   وليسَ من الغريبِ القولُ بأنَّ الشِّعرَ الجاهليَّ فَقيرٌ إلى قصيدَةِ الاعتذار؛ فهيَ قصيدَةٌ تتطلَّبُ وجودَ عَلاقَةٍ بسلطةٍ مركَزيّةٍ ذاتِ يدٍ طُولى وسطوَةٍ كبيرة، ولم تكُن هذه السّلطةُ موجودةً إلّا على أطرافِ الجزيرةِ حيثُ ملوكُ المناذرةِ في العراقِ وملوكُ الغساسنةِ في الشّام، وكانت علاقةُ الشّعراءِ العربِ بهاتينِ السُّلطتينِ غيرَ محكومةٍ بعقدٍ اجتماعيٍّ يُحدِّدُ الحاكمَ والمحكوم ويفرِضُ الطّاعةَ المطلَقَة. وإذا ما تجاوَزْنا العصرَ الجاهليّ، فسنجدُ أنّ عصرَ صدرِ الإسلامِ قَد مكَّن قصيدَةَ الاعتذارِ تمكيناً كبيراً لم تكُن تحظى بهِ من قبل؛ إذ خضَعَتِ الجزيرةُ العربيّةُ أخيراً إلى سُلطةٍ مركزيّةٍ جامعةٍ يقومُ عليها النّبيُّ الكريمُ صلى الله عليه وسلّم وخلفاؤُه من بعدِه؛ فلم يجد الشّعراءُ الّذين ناجزوا الإسلامَ من قبلُ مناصاً من الخضوعِ والتّسليم، وقد قاربَت الاعتذاريّاتُ النبويّةُ اعتذاريّاتِ النّابغةِ وعديّ في بنائِها الفنيّ المعتمدِ على الرهبةِ والخوفِ والتنصّل من الذّنبِ والتّعريضِ بالوشاة، غيرَ أنّها فارقَتْها في جزئيّة المديح مفارقةً واضحة؛ إذ توخّى الشّعراءُ المعانيَ الّتي تفرّقُ مقامَ النبوّةِ عن مقامِ المُلك، يقولُ كعبُ بن زهير مثلاً:

مَهلاً هَـداكَ الَّـذِي أَعْطـاكَ نَافِلَةَ الـْ قُـــرْآنِ فيهــا مَــواعِيظٌ وَتَفْصــيلُ
لا تَأْخُــذنِّي بِــأَقْوالِ الْوُشـاةِ ولَـمْ أُذْنِــبْ ولــو كَثُــرَتْ فِـيَّ الأقاويـلُ

  فكما نرى، يركّزُ الشُّعراءُ على الجانبِ الرُّوحيّ في شخصيّةِ النّبيّ الكريم لا على الجانبِ الماديّ المرتبطِ بالسّطوةِ والملكِ العَضوض. ومثلُ هذه المعاني كانت تُطالعُنا في الاعتذاريّات الموجّهةِ للخلفاءِ الرّاشدين أيضاً، يقولُ الحطيئةُ معتذراً لعمرَ بنِ الخطّاب:

أَنْـتَ الْأَميـنُ الَّـذي مِـنْ بَعْـدِ صاحِبِهِ أَلْقَـتْ إِلَيْـكَ مَقاليـدَ النُّهَـى الْبَشَرُ
لَـم يُؤْثِــروكَ بِهـا إِذْ قَـدَّمُوكَ لَهـا لَكِـنْ لِأَنْفُـسِهِــمْ كانَــتْ بِـكَ الخِيَـرُ

وبالتّقدُّم بالعصورِ الأدبيّة، تبدأُ قصيدةُ الاعتذارِ الموجّهةِ إلى السّلطة بشَقِّ طريقٍ جديدةٍ تتقاطعُ معَ الطّريقِ القديمة؛ فلم يعُد الاعتذارُ مجرّدَ قصيدةٍ يقولُها الشّاعرُ رهبَةً وخوفًا من جريرةِ الّذنوبِ الكبيرةِ المفضيةِ إلى الهلاك، بل صارت قصيدةً عامّةً يلجأُ إليها الشُّعراءُ لتعظيمِ شأنِ الْمُلك، وعلى ذلك فإنّنا نجدُ الكثيرَ من القصائدِ الموجّهة للخلفاءِ والأمراء يعتذرُ فيها الشُّعراءُ من تقصيرِهم في المديحِ أو تأخّرِهم في مواصلةِ البلاطِ الحاكم؛ يقولُ المتنبّي معتذراً إلى سيفِ الدّولةِ من تأخّرِه عنه في المديح:

وَأَعْـــلَمُ أَنِّــي إِذا مَــا اعْتَــذَرْتُ إِلَيْــكَ أَرادَ اعْتِـــذارِي اعْتِــذارا
كَــفَـــرْتُ مَـكــارِمَــكَ الْبـاهِــرا تِ إِنْ كــانَ ذلِـكَ مِنِّــي اخْتِـيــارا
وَلَكِــنْ حَمَـــى الشِّعْــر إلاّ القَليــ لَ هَـــمٌّ حَمَـــى النَّــوْمَ إلَّا غِـرارا

وإذا ما خرَجْنا من عباءَةِ السُّلطَةِ والاعتذارِ إليها خَوفاً وطمعاً، فإنّ الشّعرَ العربيَّ غنيٌّ بالاعتذارِ بصفتِهِ لوحاتٍ فنيّةً لا غرضاً شعريّاً خالصاً؛ إذ يُتحفُنا الشّعراءُ، مثلاً، بمجموعةٍ من المقطوعاتِ في الاعتذارِ ضمنَ إطارِ الغزل، يقولُ بهاءُ الدّين زهير:

أَتُـــــرى يَـقْــبَــــــلُ عُــــذْرِي إِذْ أَنــــــا جِـــــئْتُ سُـــــؤَالا
فَـلَقَــــــدْ أَرخَـصَــنِـــــي مَـــنْ أَنـــــا فـيــــــهِ أَتَـغـــــالى
هُـــــوَ مَعْــــــذورٌ رَأى النّــــا سَ يَــقُــــــــولونَ فَـقـــــــالا
ســـَيِّدي لَـــم يُبْــــقِ لــي هَجْـــ رُكَ بَيْــــــنَ النَّـــــاسِ حــــالا
أَنْـــــتَ رُوحـــــي لا أَرى لِـــــي عَنْــــكَ يـــا رُوحِـــي انْفِصـــالا

ونجدُ لوحاتِ الاعتذارِ حاضرةً كذلك في قصائدِ الإخوانيّات والعتاب؛ إذ يعتذرُ الشّعراءُ لإخوانِهم محاولينَ ردمَ الفجوةِ وتجاوزِ الجَفوة، يقولُ أبو فراس في عتابِ غلامِه منصور:

وَلِــي فِـــي كُـلِّ يَـوْمٍ مِنْــكَ عَتْــبٌ أَقُـــومُ بِــهِ مَـقــــامَ الْإِعْتِــذارِ
حَـمَــــلْتُ جَفـــاكَ لا جَلَــداً وَلَكِـنْ صــَبَرْتُ عَلــى اخْتِيــارِكَ وَاضـْطِرارِي

وتظهرُ هذه اللوحاتُ أيضاً في قصائِدِ الحكمةِ والتّجربة؛ إذ يحضّ الشّاعرُ على الاعتذارِ وقبولِهِ بصفتِهما قيمتينِ نبيلتين، يقولُ الإمامُ عليُّ بن أبي طالب:

اقْبَـلْ مَعـاذِيرَ مَـنْ يَأتِيـكَ مُعْتَـذِراً إِنْ بَـرَّ عِنْـدَكَ فِيمـا قـالَ أَو فَجَـرا
فَقَـــدْ أَطاعَــكَ مَـنْ أَرْضـاكَ ظـاهِرُهُ وَقَــدْ أَجَلَّـكَ مَـنْ يَعْـصِــيكَ مُسـْتَتِرا

وتظهرُ كذلك في قصائدِ الرّثاء؛ إذ يذكُرُ الرّاثي صفةَ قَبولِ العذرِ والحِلم وسَعَةِ الصّدرِ ضمنَ صِفاتِ المرثيّ، تقولُ الخنساء في رثاءِ أخيها صَخر:

قَـــدْ كـــانَ مَـــأْوَى كُــلِّ أَرْمَلَـةٍ وَمُـقِـيـــلَ عَثْـــرَةِ كُــلِّ ذي عُــذْرِ
تَـلْقَــــى عِـيــالَهُــــمُ نَوافِــلُهُ فَتُــــصيبُ ذا الْمَيْســـورِ وَالْعُســْرِ

وتختارُ لكم الموسوعةُ الشّعريّةُ صفوةَ ما جادَت به قرائحُ الشّعراءِ العربِ في فنّ الاعتذار على مرّ العصور؛ سواء أكانت تلك القصائد مخصوصةً بالاعتذارِ بصفته غرضاً شعريّاً يشترطُ علاقةَ التوتّر بين الشّاعر والسلطة، أو بصفته موضوعاً يظهرُ في الأغراض الشّعريّة الأخرى من غزلٍ وحكمةٍ ورثاءٍ وغيرِ ذلك.

النَّابغةُ الذُّبيانيُّ
النَّابغةُ الذُّبيانيُّ

قال يمدح النّعمان بن المنذر، ويعتذر إليه ممّا بلغه عنه فيما وَشَى به بنو قُرَيع في أمر المتجرّدة:

النَّابغةُ الذُّبيانيُّ
النَّابغةُ الذُّبيانيُّ

قال أبو عمرو: وكان النابغة قد قدم مع منظور بن زبّان وسيّار بن عمرو الفزاريّين

النَّابغةُ الذُّبيانيُّ
النَّابغةُ الذُّبيانيُّ

وقال أيضاً يمدح النُّعمان ويعتذر إليه:

النَّابغةُ الذُّبيانيُّ
النَّابغةُ الذُّبيانيُّ

وقال أيضاً يمدح النعمان بن المنذر:

إبراهيم بن أبي محمد اليزيدي
إبراهيم بن أبي محمد اليزيدي

يعربد في مجلس شراب مع المأمون، ثم يعتذر إليه:

أَبو تَمّام
أَبو تَمّام

القصيدة في مدح القاضي الشهير أحمد بن أبي دؤاد الإيادي (أول حلبي اشتهر في الإسلام)