يُعَدُّ موضوعُ الفروسيّةِ من الموضوعاتِ المهمّةِ في الشّعرِ العربيّ القديم؛ ذلك لأنّها لا تشكّلُ مجرّد وصفٍ للقتال والمواجهات والمفاخرةِ بذلك، كما لا تشكّلُ مجرّدَ تعبيرٍ عن الخبرةِ العاليةِ للفرسانِ بالخيلِ وركوبِها وامتلاكِها، بل تتجاوزُ ذلك إلى أن تشكّلَ منظومةً أخلاقيّةً ساميةً تجعلُ الفروسيّةَ معنىً مُرادفاً للمروءةِ ومضادّاً للهمجيّةِ والعدوانِ. وبذلك، يكونُ الفارسُ الحقيقيُّ ليس ذلك الّذي يستطيعُ أن يركبَ الخيلَ ويبليَ بلاءً حسناً في المعركة فحسب، بل هو ذلك الّذي يُضيف إلى قيمةِ القوّةِ والشّجاعة بقيّةَ القيمِ الأخلاقيّةِ الأخرى؛ من الكرم، والحِلم، والنّجدة، والعفّة، وصلة الرّحم، وإكرامِ الجار، والذبّ عن الذّمار، وغير ذلك من الصّفات الحميدة. ولعلّ عنترة بن شدّاد هو أشهرُ الأمثلةِ في الذّاكرةِ العربيّةِ لهذا النّوع من الفروسيّةِ المنبثقةِ من رحِمِ المروءةِ ومكارمِ الأخلاق؛ فهُوَ لا يفتأ يُتبعُ لوحةَ وصف قوّته وشجاعتِه بلوحاتٍ متتاليةٍ تعرِضُ مكارمَ الأخلاقِ لديه، يقولُ:
وَلَمَــــا رَزَأْتُ أَخــــا حِفــــاظٍ ســـِلْعَةً | إِلَّا لَـــــهُ عِنْـــــدِي بِهــــا مِثْلاهــــا |
أَغْشـــى فَتـــاةَ الْحَـــيِّ عِنْــدَ حَليلِهــا | وَإِذا غَـــزا فـــي الْجَيْـــشِ لا أَغْشـــاها |
وَأَغَـــضُّ طَرْفِــي مــا بَــدَتْ لِــيَ جــارَتي | حَتَّــــى يُــــوارِيَ جــــارَتي مَأْواهــــا |
إِنِّـــي امْـــرُؤٌ ســـَمْحُ الْخَلِيقَــةِ ماجِــدٌ | لا أُتْبِــــعُ النَّفْـــسَ اللَّجُـــوجَ هَواهـــا |
فعنترةُ في الأنموذجِ السّابقِ لا يَسلُبُ رجلاً صالحاً ذا حميّةٍ وحِفاظٍ مالَه، وإن فعلَ فإنّه يعوّضُهُ عمّا سلبَه، كما أنّه لا يأتي امرأةً إلّا إذا كان زوجُها حاضراً، كما أنّه يحفظُ عِرضَ جارتِه ويغضّ طرفَه في حالِ ظهرَت له هذه الجارة، وهو بعدُ رجلٌ حليمٌ ذو خُلُقٍ سَمح، ماجدٌ لا يتبعُ هوى نفسِهِ اللّجوج.
ونجدُ في دواوينِ الشّعراءِ القدامى عشراتِ النّماذجِ الشعريّة الّتي تتقاطعُ مع عنترةَ بن شدّاد مشكّلةً نظريّةً عربيّةً خالصةً للفروسيّة الممزوجةِ بمنظومة الأخلاقِ العالية، يقولُ الأفوهُ الأوديّ مثلاً واصلاً حبلَ فُرسانِ قومِهِ بعُروة الأخلاقِ الوثيقة الّتي تقتضي إطعامَ الجياع ونجدة الملهوفين:
وَإِذا عَـجَـــــاجُ المَــوْتِ ثَــارَ وَهَلْهَــلَتْ | فِيــــهِ الْجِيـــادُ إِلـى الجِيــادِ تَسَــرَّعُ |
بِالدَّارِعـيـــنَ كَأَنَّهــا عُصـَبُ القَطـا الــ | أَســْرابِ تَمْــعَــــجُ فـي العَجــاجِ وَتَمْـزَعُ |
كُـنَّـــــا فَـوَارِسَهــــا الَّـذينَ إِذا دَعـا | دَاعـــي الصَّــبــــاحِ بِـهِ إِلَيْـهِ نَفْـــزَعُ |
كُـنَّــــــا فَـــوَارِسَ نَجْــــدَةٍ لَكِنَّهــــا | رُتَـــبٌ فَـبَـــعْـــــضٌ فَــوقَ بَعْـضٍ يَشْفَــعُ |
وَلِكُــــلِّ ســــاعٍ سُـــنَّةٌ مِــمَّنْ مَـضَــــى | تَـنــْـمــــي بِــهِ فـي سَعْـــيِهِ أَو تُبْـدِعُ |
وَكَأَنَّمــــا فِيــهــــا المَذانِـــبُ خِلْفَـةً | وَذَمُ الــدِّلاءِ عَــــلى قَـلِيـــــبٍ تُنْـــزَعُ |
فِيــنــــا لِثَعْــلَبَــــةَ بْـنِ عَـوْفٍ جَفْنَـةٌ | يَـــأْوِي إِلَيْهـــا فــي الشِّتــاءِ الجُــوَّعُ |
وَمَـذانِـــــبٌ مــا تُسْـتَـعـــارُ وَجَفْنَـــةٌ | ســَوداءُ عِنْـــدَ نَشِــيــجِهـــا مـا تُرْفَـعُ |
مَـــنْ كَــانَ يَشْــتُــــو وَالْأَرامِــلُ حَـوْلَهُ | يُــــرْوي بِآنِــيَــــةِ الصــَّريفِ وَيُشْبِـــعُ |
وبالإضافةِ إلى اجتماعِ صِفاتِ القوّةِ والشّجاعةِ وكرمِ الأخلاقِ والفعالِ النّبيلةِ في شخصيّةِ الفارسِ العربيّ القديم، ركّزَ كثيرٌ من الشّعراءِ على جعلِ الفارسِ رجلاً كاملاً فأضافوا صفاتٍ ذهنيّةً خالصةً للفارسِ؛ من مثلِ تمتّعه بقوّةِ الرَّأي وأصالةِ الحكمةِ والتّجربة. يقولُ المتنبّي في مطلعِ قصيدةٍ شهيرةٍ:
الرَّأْيُ قَــبْـــلَ شَـجــاعَــةِ الشُّـجْــعــانِ | هُـــوَ أَوَّلٌ وَهْــيَ الْمَــحَـــلُّ الثَّــانِـــي |
فَــإِذا هُـمـــا اجْـتَــمَــعــا لِنَفْـسٍ مِرَّةٍ | بَــلَغَــــتْ مِــنَ الْعَـلْيــاءِ كُـلَّ مَـكــانِ |
وَلَرُبَّمـــا طَــعَـــنَ الْفَــتـــى أَقْــرانَهُ | بِـــالرَّأْيِ قَــبْـــلَ تَـطــاعُـــنِ الْأَقْـرانِ |
ويقولُ أبو تمّام في المعنى نفسه:
نَفْســـِي فِــداؤُكَ إِنْ كــانَتْ فِــداءَكَ مِــنْ | صــــَرْفِ الْحَـــوادِثِ وَالْأَيَّـــامِ وَالـــدُّوَلِ |
لا مُلْبِــــسٌ مــــالَهُ مِـــنْ دُونِ ســـائِلِهِ | ســـِتْراً وَلا ناصـــِبُ الْمَعْـــرُوفِ لِلْعَـــذَلِ |
لا شَمْســـُهُ جَمْــرَةٌ تُشــْوَى الْوُجُــوهُ بِهــا | يَوْمــــاً وَلا ظِلُّــــهُ عَنَّــــا بِمُنْتَقِــــلِ |
تَحُـــولُ أَمْـــوالُهُ عَـــنْ عَهْــدِها أَبَــداً | وَلَــمْ يَــزُلْ قَــطُّ عَــنْ عَهْــدٍ وَلَــمْ يَحُـلِ |
ســارِي الْهُمُــومِ طَمُــوحُ الْعَــزْمِ صــادِقُهُ | كَـــــأَنَّ آراءَهُ تَنْحَــــطُّ مِــــنْ جَبَــــلِ |
ويقولُ أبو فراسٍ الحَمْدانيّ في مدحِ سيفِ الدّولةِ في لوحةٍ تضمّ مجامعَ شخصيّةِ الفارسِ العربيّ القديم الّتي تتمتّعُ بالكمالِ الإنسانيّ الخالص:
يــا بَنِــي الْعَــمِّ قَــدْ أَتانـا ابْـنُ عَـمٍّ | فِــــــي طِلابِ الْعُلا صــــــَعُودٌ لَجُـــــوجُ |
فاضـــــِلٌ كامِـــــلٌ أَدِيـــــبٌ أَرِيــــبٌ | قـــــائِلٌ فاعِـــــلٌ جَمِيـــــلٌ بَهِيــــجُ |
حـــــازِمٌ عـــــازِمٌ حَـــــرُوبٌ ســــَلُوبٌ | ضـــــارِبٌ طـــــاعِنٌ خَـــــرُوجٌ وَلُــــوجُ |
مِحْـــــرَبٌ هَمُّـــــهُ حُســـــامٌ صـــــَقِيلٌ | وَجَــــــــوادٌ مُطَهَّـــــــمٌ عُنْجُـــــــوجُ |
وَخُيُـــــــــــولٌ وَغِلْمَــــــــــهٌ وَدُرُوعٌ | وَســــــــُيُوفٌ وَضـــــــُمَّرٌ وَوَشـــــــِيجُ |
لَـــكَ بَحْـــرٌ مِـــنَ النَّـــدَى كُــلُّ بَحْــرٍ | مِـــنْ بِحـــارِ النَّـــدَى لَـــدَيْهِ خَلِيـــجُ |
أَنْــتَ لَجَّجْــتَ فِــي الْمَكــارِمِ مــا كـــُلْ | لُ كَرِيـــــمٍ مِنْهـــــا لَــــهُ تَلْجِيــــجُ |
وتختارُ لكم الموسوعةُ الشّعريّةُ صفوةَ ما جادَت به قرائحُ الشّعراءِ العربِ في وصفِ الفروسيّةِ على مرّ العصور؛ سواء أكانت تلك القصائد الّتي تتناولُ الفروسيّةَ بالتّركيزِ على علاقاتِ الشّجاعةِ والقوّة، أو تلك الّتي تفتحُ معنى الفروسيّةَ على المنظومةِ الأخلاقيّة السّاميةِ الّتي أكثرَ شعراءُ العربيّةِ من التّنظيرِ لها.