مقدمة أبي العلاء لديوانه سقط الزند:
أما بعد، فان الشعراء كأفراس تتابعن في مدى، ما قصر منها لحق وما وقف ذيم وسبق، وقد كنت في ربان الحداثة وجن النشاط، مائلا في صغو القريض، أعتده بعض مآثر الأديب، ومن أشرف مراتب البليغ، ثم رفضته رفض السقب غرسه، والرأل تريكته ، رغبة عن أدب معظم جيده كذب، ورديئة ينقص ويجدب، وليس الري عن التشاف ، ويعلمك بجنى الشجرة الواحدة من ثمرها، ويدلك على خزامي الأرض النفحة من رائحتها، ولم أطرق مسامع الرؤساء بالنشيد، ولا مدحت طالبا للثواب وإنما كان ذلك على معنى الرياضة وامتحان السوس أي الطبيعة فالحمد لله الذي ستر بعفة من قوام العيش ورزق شعبة من القناعة أوفت على جزيل الوفر. وما أوجد لي من غلو علق في الظاهر بآدمي، وكان مما يحتمله صفات الله عز وجل، فهو مصروف إليه. وما صلح لمخلوق سلف من قبل، أو غير، أو لم يخلق بعد، فإنه ملحق به. وما كان محضا من المين لا جهة له فأستقيل الله العثرة فيه والشعر للخلد مثل الصورة لليد ، يمثل الصانع ما لا حقيقة له، ويقول الخاطر ما لو طولب به لأنكره، ومطلق في حكم النظم دعوى الجبان أنه شجيع، ولبس العزهاة ثياب الزير (العزهاة: الرجل الذي لا يحب النساء) وتحلي العاجز بحلية الشهم الزميع ( الزميع: السريع المقدام) والجيد من قيل الرجال وإن قل يغلب على رديئه وإن كثر، ما لم يكن الشعر له صناعة، ولفكره مرنا وعادة. وفي هذه الكلمات جمل يدللن على الغرض، والله تعالى أستغفر، وإياه أسال التوفيق.
مقدمة أبي العلاء لكتابه ضوء السقط في شرح سقط الزند وما املاه أبو العلاء على تلميذه أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله الأصبهاني : ومن هذا الشرح نسخة بمكتبة باريس برقم (3111) وهو شرح املاه على أبي عبد الله وبلغ به إلى أول الدرعيات قال:
قد علم الله جلت عظمته أن أحب الكلام إليّ ما ذكر به الله عز سلطانه وأثني به عليه. وإذا تكلمت بكلمة لغيره عددتها من غبْن وغبَن، تزيد الغصن الشائك من الأُبَن، وأنا شيخٌ مكذوبٌ عليه، يظن بعض العامة أنني من أهل العلم، وأنا من الجهالة نظير الخلْم، =الخلم: الصديق وكناس الظبي= ويخالني ديِّنا ولم يزل تقصيري مبيّنا، ويحسبني نفرٌ ذا يسار، وإن قضيت الزمن بالإعسار، وأحق ما يلحقني من ذلك أن يلتمس مني الأضعف فعال الغني، وإذا ظهرت المَعجزة وصفني بلئيم دني، وإذا نطقت بألفاظ ليست لله فإنما أنا كما قيل في المثل" (مكره أخوك لا بطل) هذا أوان الشبيبة فكيف إذا أخلقني العصر إخلاق السبيبة، =السبيبة: العمامة= ورب كلمة تقول دعني، والسيل يضطرك إلى المعطشة، ولزمت مسكني منذ سنة أربعمائة، معملا اني لا أرسل فيما يتصل بكلام العرب بنت شفة، وبليت بنوب ليست بمنكشفة، ومُدّ العمر فكأنما سنوه السَمُر، ويعدم عنده الثمر، وإنما يجود بدبى ليس بطائل، =الدُبَى: ورق الشجر= لا يسمح بقوت العائل، وطرقني رجل بعد رجل، كلهم يلتمس مني ادبا، أو يحسب أنني ممعان نشبا، فكان من آخر وارد علي أبو عبد الله الأصفهاني، غره أحاديث بعض العامة، فلقي من الأسفار كُلَفا، فأصابني قد راهقت تلفا، وعرفته أن غير اولى بالقصد، والمجدب يقنع من الناقة بالفصد، كما قال القائل:
(وقد يترك العذر الفتى وطعامه =إذا هو أمسى جله من دم الفصد)
واجتهدت في النصيحة فلجّ، والمثل السائر، "لجّ صاحبك فحج" وأبو عبد الله لم يحجج أم رُحْم، =أم رُحْم: مكة المكرمة= ولكنه اتصل بدماغ محجوج =المحجوج: المداوى= كما قال أبو ذؤيب:
(وصب عليها المسك حتى كانها = أسِيٌّ على أم الدماغ حجيج)
ولم يمكني الزمن أن اعينه على السفر، فلما رضي بكد المغفر =المغفر: شيء كالصمغ يؤكل أيام الجدب= استخرت الله عظم سلطانه في إقراء أشياء كثيرة، وسألني أن أشرح له ما استعجم عليه من الكتاب المعروف بسقط الزند فأجبته إلى ما سأل، وقد شهد الله وكفى به أني حسير طليح، اشفق من الأخطاء وأُليح) (انتهت مقدمة أبي العلاء لما أملاه على أبي عبد الله الأصفهاني) انتهى.
*** *** ***
وكان ياقوت الحموي اول من عرّف بسقط الزند في ترجمته لأبي العلاء في "معجم الأدباء" (ج3/ 154) قال:
(ومن غير هذا الجنس كتاب لطيف فيه شعر قيل في الدهر الأول يعرف بكتاب سقط الزند وأبياته ثلاثة آلاف) وتلاه ابن العديم فقال في كتاب: "الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري (وديوانه المعروف بسقط الزند وهو ما قاله في أيام الصبا في أول عمره، وهو من أحسن أشعاره، وقد اعتنى به العلماء وشرحوه، مقداره خمس عشرة كراسة، تزيد أبياته المنظومة على ثلاثة آلاف بيت، شرحه الخطيب التبريزي وشرحه ابن السيد البطليوسي وأحسن شرحه).
ثم وصف "ضوء السقط" بأنه يشتمل على تفسير ما جاء في سقط الزند من الغريب، مقداره عشرون كراسة، وضعه لتلميذه أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله الأصبهاني، وكان رجلا فاضلا قصده إلى معرة النعمان ولازمه مدة حياته يقرأ عليه بعد أن استعفى من ذلك، ثم أجابه فقرأ عليه الكتب إلى أن مات وقد أشار إلى ذلك في مقدمة ضوء السقط. وأقام أبو عبد الله الأصبهاني بحلب، وروى عن أبي العلاء كتبا متعددة من تصانيفه، وهو الذي سأله أبو العلاء أن يشرح له سقط الزند فشرحه، ووسمه ب ضوء السقط. (زهير)