دولة الإمارات العربية المتحدة
اللجنة العليا للتراث والتاريخ
ديوان
فضيلة الشيخ
محمد بن الشيخ أحمد بن الشيخ حسن الخزرجي
الطبعة الأولى
1429 هجرية – 1998م
أشرف على طبعه ومراجعته
حسن بن سلامة فرج
إهداء
إلى صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان حفظه الله تعالى
فيـا بطـل الأبطـال والقـائد الـذي | إليـه الخليـج اليـوم آمـاله تحدو |
رأى فيــك مقــداما وبــاني نهضـة | وحمــال أعبــاء إذا أطبـق الجهـد |
فسـر فـي طريـق المجد وارفع لواءه | فإنـا بنـو هـذا الخليـج لـه جنـد |
وطني
وطنــي العزيـز ثـراك عنـدي عنـبر | .. |
وأجـــاج مـــائك سلســبيل كــوثر | .. |
ولظــى هجيــرك فــي فــؤادي سـكر | .. |
بين يدي الديوان
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، الأنصار منهم والمهاجرين،
وبعد : فيقول الإمام النووي رحمه الله تعالى في المجموع شرح المهذب عند ذكر المساجد وأحكامها وما يتعلق بها وما يُندب فيها وما تنزه منه :
"لا باس بانشاد الشعر في المسجد إذا كان مدحاً للنبوة أو الإسلام، أو كان احكمة أو في مكارم الأخلاق أو الزهد ونحو ذلك من أنواع الخير....
فأما ما فيه شىء مذموم كهجو مسلم أو صفة الخمر أو ذكر النساء أو المرد أو مدح ظالم أو افتخار منهي عنه أو غير ذلك فحرام".
ومما يحتج به للنوع الأول حديث سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى قال:
مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد- وحسان بن ثابت رضى الله عنه ينشد الشعر فلحظ إليه فقال : أنشد فيه وفيه من هو خير منك ثم التفت إلى أبي هريرة رضي الله فقال: أنشدك باللهِ أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"أجب عنّي، اللهم أيده بروح القدس، قال : نعم" رواه البخاري ومسلم. وإذا نحن استعرضنا هذا الديوان وجدناه يندرج تحت النوع الأول من مدح للنبوة والإسلام والحكمة والحث على مكارم الأخلاق والإشادة بها وبمن يتحلى بها، والزهد والدعوة إلى الخير والصلاح والإصلاح.
يقول الشيخ في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم :
يــا راكبـا عـرج إذا جنـت الحمـى | واحفــظ لأهــل مــودتي الآثـــارا |
فيبدأ بذكر الأنصار الذين ذكرهم الله في كتابه وسمّاهم بذلك الإسم.
فهـم الليـوث هـم الحمـاة هم الآلى | ســـماهمو رب الســـما الأنصــارا |
وهكذا إلى أن يذكر الآداب التي يجب مراعاتها في مثل هذا المقام السامي:
فيقول:
وامــش الهوينـا واحـترم قيعانهـا | ولــج الفنــاء وجــانب الأغيــارا |
ثم يدعو إلى التواضع مع الاحترام والتخلي عن كل ما سواه -بل التوسل بمقامه عند ربه:
فاقبــل تحيــة مــن أتـاك بـذنبه | يرجــو النجــاة ويأمــل الغفـارا |
فالبــاب أنــت لــداخب فـي قربـه | مـن لـم ينـل قربـا ينـال العـارا |
يــا رب إنــي مــؤمن بــك واثــق | فـــاغفر بجـــاه نبيــك الأوزارا |
وهكذا إلى أن يختم بما بدأ به والإشادة بالسابقين الأولين الذين تبوءوا الدار والإيمان:
يســمو إلــى الأنصـار فـي عليـائه | قــوم منحتهمــو الوســام شــعارا |
متبــوئين الــدار إيمانــا فــذا | فضــل يجــدد فــي الــورى آثـارا |
وأما ذكر الشيخ نسبه فامتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم"
ومن هنا كان قول الشيخ:
إنــي إلـى عمـرو بـن عـوف ورافـع | وإلـــى الحبــاب نمتنــي الآبــاء |
فالقصيدة كلها تذكير بمفاخر القوم "والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون..""9" الحشر.
وكما قال الشيخ:
أثنــى عيهــم فـي الكتـاب إلههـم | مجـــد تخلـــد حبـــذاك ثنـــاء |
وروت أحـــاديث الفضـــائل فيهــم | كتــب الحــديث تخطهــا العلمـاء |
فهو ولا شك فخر ذكرته كتب الصحاح في "فضائل الأنصار".
وأما مدح الخصال الحميدة في الآخرين فهو مطلب حسن يدفع للاقتداء بهم والتنافس في ذلك فلا غرو إن عدد مناقب كثير ممن ورد ذكرهم-في هذا الديوان-من علماء وولاة وحكام فهو مدح للفضيلة ذاتها.
يبـادر فـي الإصـلاح فينـا ولـم يزل | مجــدا علــى خيــر غـزار عـواقبه |
ومن هنا كان الدعاء:
فرحمــة ربــي بالعشــي وبالضــحى | تبــاري شــهيدا عاليــات مراتبـه |
أما التغني بالوطن والشوق إليه فهو الغالب على هذا الديوان...فقد ذكر الشيخ موطنه وشوقه وحنينه ووقف واستوقف:
بلادي إلـــى نفســي ألــذ وأطيــب | وأشـهى مـن المـاء الـزلال وأعـذب |
قضــيت شــبابي والحيــاة وعيشـتي | بعيـدا عـن الأرض الـتي هـي أقـرب |
ومـا كنـت أهـوى فـي البلاد هوايتي | سـواها وسـكناها إلـى القلب أرغب |
فيــا ديـرة الغـراء عـذرا فـإنني | عجـزت عـن الشـكر الـذي هـو واجب |
ويقول أيضا:
غـابت عـن العيـن رؤياها وما برحت | فـي القلـب يسـعفها بالنـأي تذكار |
إلى أن يقول:
هتفــت بــالقلب فانقـادت خـواطره | فخـــامر القلــب هــزات وإعصــار |
وفي قصيدة أخرى في الوطن بعد طول غيبة يبدأها بقوله:
ركبـــت عشــاء نحــو دار أحبهــا | علـى ظهـر طـاو شـدت البيد بالسير |
إلى أن يقول:
ولمــا تبوأنــا المــبيت وأصـبحت | منــازل أوطــاني تنــور بـالفجر |
سرى البشر في الأعضا فأنعشني الهوى | ومـالت بـي الأشواق في جبهة السكر |
ثم قوله:
وكيــف ســلوي عــن مغـان عهـدتها | مجــامع فضـل بـل وجامعـة الفخـر |
مــواطن آبــائي ومــأوى مكــارمي | فواضــلها عنـدي تجـل عـن الحصـر |
أما الروح الوطنية والدعوة إلى الوحدة الشاملة والحث على النهوض والإشادة بالماضي التليد فيظهر جليا في مثل قوله:
نـدا الحـق لا يخفـى على من له نظر | فهــذا صـداه بيـن أذهاننـا ظهـر |
فلا حجـــرات الشــك تحجــب صــوته | ولا حجـب التشـبيه تمحـو لـه أثـر |
حـدا ركبـه من عالي الأطم في الذرى | فشــنف آذانـا شـذا صـوته العطـر |
ونــدد بــالزور الـذي سـاد صـيته | على الشرق حتى لم يدع منه أو يذر |
بني العرب أبناء الخليج ألا انهضوا | فـأنتم بنـاة المجد والعز والظفر |
وهبـوا إلـى الداعي المثوب بالعلا | صـفوفا علـى أعلامهـا الود قد نشر |
وكونــوا علىــالعلات أبنـاء واحـد | رمى من رمى أو ساهم الوتر من أمر |
فــإن رمتمـوا توحيـد رأي فـأنتمو | لـدى شـبكة البـاغي أشد من الشرر |
والتكاتف والتآزر:
ولـن تغلبـوا في جامع الأمر إن غدا | تكــاتفكم فــي أي جــزء لـه وزر |
ثم مقومات هذه الوحدة:
فإيمـانكم بـالنفس والـدين والإخـا | هـو العـروة الوثقى كفاحا ومنتصر |
والدعوة إلى استحضار الماضي ومذاكرة التاريخ:
ومــن ينــس ماضــيه فليـس بحاضـر | يعــض بنانــا أو يقـوم لـه وتـر |
فـأين نـدا التاريـخ قـومي وأنتمو | بنـو بجـدة العليـا ومنبـع من صدر |
وأخيرا الدعء والتضرع:
إلهـــي بصـــر قومنــا ورجالنــا | ووحــدهم فــي كــل أمـر ومـؤتمر |
فــأنت عليـك يـا إلهـي اعتمادنـا | ولطفـا بنـا عنـد الحوادث والضرر |
فـإن بنـي الأعـداء راموا انهيارنا | وحاشـاك ترضـى أمـة العـرب تنقهر |
ومع ذلك لا بد من الأخذ بالأسباب وإعداد العدة امتثالا لقوله تعالى:
"وأعدو لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم..."(60) الأنفال.
وحـدوا علـى الأعـداء أبيـض مصـلتا | تخــر لــه الأبطـال سـاجدة حسـرى |
لينزجــر البــاغي ويــأمن ســالك | ببيـداء تـري مـن جوانبهـا ذعـرا |
ثم تكون حسن العاقبة:
ويحمد عقبى فعلكم قول قائل= يبث لكم ذكرا وينظمه شعرا
والشيخ إذا مدح فإنما هي الفضائل والمكارم والمآثر والرأي السديد والفكر الثاقب.
يقول الشيخ:
يـا زائد فـي الخيـر أنـت ضـياؤها | وشــعاع فكــرك يحمــل الأنــوارا |
فــتراه فـي الأفـق الفريـد سـناؤه | يجلـــو الظلام ويصــقل الأفكــارا |
ويعيــد مــن الــوعي بعـد خمـوله | ويزيـــل آلامـــا ويــدفن عــارا |
ويلــم جمــع الشــمل بعـد فتـاته | برويــــة تستأصــــل الأخطـــارا |
وأما الحكمة والزهد والاعتبار فلها في شعر الشيخ مجال ومضمار:
وزهــدني فيمــا أرى مــا علمتــه | بـأن خفايـا النـاس غيـر الظواهر |
مضــى زمــن والكــل هــاد وصـالح | ومـا فـي الزوايـا غير طهر وطاهر |
رجـال لهـم فـي سـاحة المجـد مسكن | وفــي عتبـات الزهـد رجفـة حـائر |
وفي مقام آخر يقول الشيخ:
لعمــرك مـا الـدنيا تزيـدك بهجـة | وإقبالهــا يومــا عليــك دبــور |
ومــا طيــب عيــش لا يـدوم نعيمـه | مقامــك بعــد الظــاعنين قصــير |
وفي التفويض لله من قصيدة مطلعها:
إنــي أفكــر والأيــام تعبــث بـي | مــا بيــن مرتفـع منهـا ومنخفـض |
أتشــتكي فاقــة واللــه عمـدتنا | أم ترتجـي العز من أجوافها الربض |
فقلــت كلا بحمــد اللـه ليـس سـوى | ربـي عليـه اعتمـادي في مدى غرضي |
حمـدا علـى نعمـة الإسـلام ثـم علـى | ســلامة القصـد مـن غـي ومـن حـرض |
مصـــليا ومعيـــدا ذكــر ســيدنا | محمــد وذوي القربــى وكــل رضـي |
أما عن المدح فقد بين الشيخ رأيه فيه بقوله:
أكــبرت نفسـي عـن شـعر أقـوم بـه | بيـــن الخليقــة مــداحا لإنســان |
فالمــدح أكــبر شـيء أنـت فـاعله | لــوارث رتبــا مــن غيــر إحسـان |
ولذا يبين الشيخ إخلاصه وعدم تملقه قائلا:
أنـــا مخلـــص بــالحب إلا أننــي | تـــأبى علـــي مكـــارمي أتملــق |
قــد بعتكــم قلـبي بشـرط نصـيحتي | ســـيان عنـــدي واجـــم ومحلـــق |
كما يقول الشيخ:
ليــس الوفـاء بـأن تكـون مخادعـا | لكنـــه فـــي الصــدق والأفعــال |
إنـــي لأخلــص مــا أكــون مــودة | فيكـــم علـــى الإبعـــاد والإقلال |
ليــس التطبــع كالطبيعــة إنهــا | صــور الطفولـة فـي شـريط خيـالي |
وأخيرا وليس بآخر:
إن كنــت أخطــأت الطريــق فـإنني | بشــر وعفــوك عــن فعـالي أجمـل |
وأنـا الفقيـه الشـاعر العربـي من | قحطـان فـي أعلـى الـذرى لي منزل |
فما أحرى أن ينشأ هذا الديوان ليعم نفعه، وما أحسن أن يختار منه ما يناسب المتعلمين على مختلف مستوياتهم في الجامعة والمعاهد والمدارس للتطبع بطبعه والامتثال بهديه،
وليعرف الخلف فضل من سبقهم للوقوف على آثارهم والاقتداء بهم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه في كل محفل ومقام وفي البدء والختام.
حسن سلامة فرج
الباحث باللجنة العليا للتراث والتاريخ
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله خالق الإنسان، معلم البيان، والصلاة والسلام على أفصح سيد ولد عدنان، الذي أعطي مجامع البيان، القائل : إن من الشعر لحكمة وان منا البيان لسحرا، وبعد:
فليس من السهل تقديم كتاب للشيخ محمد بن الشيخ أحمد بن الشيخ حسن الخزرجي - أحرى أن يكون ديوان شعر، ذلك أن من تبحرَ في العلوم فقهاً وأصولاً ومنطقاً وأدباً وأمتلك أعنّة آلاتها لغةً وبلاغة وعروضا يصعب على من كان مثلي بضاعة تقديمه - وكيف لا وهو الذي إن رأيته في علمِ يُبحر حسبته لا يعلم سواه لدقة غوص في دقيق خفاياه، فلا الفقه به أعلم منّ النحو ولا النحو به أدرى من المنطق وقس ما استطعت على ذلك جماع الفنون وشتات المعارف.
وحسبك في الشعر أنّ بيته عكاظ وبابه به الشعراهُ يدافعون مدفوعين إليه إغداقاً وكرماً وتبجيلاً يتسابقون إلى ثريا البلاغة طامعين بلوغ وصف يقرب صفة الموصوف أصلاً ومحتداً وودقاً ومهطالاً وهيهات هم بالغوه مهما ارتقوا في سلم البلاغة ارتقاءً. ومَنْ كان ذا ديدنه فكفاك به ناقداً للشعر مائزاً جيدَهُ مِن رديئه، ممتلكاً ناصية البلاغ رانضآ شوارد اللغة وحسبك إن أضيف ذاك على موهبة بالجبلة وميل إلى الشعر بالطبع واتصاف باتساع الرؤى بالفطرة.
من هنا كان هذا الديوان شعراً طالعاً من شخصية تلاقت فيها علوم شتى وتحاورت فنون كثر، وتصايدت أصداء تجارب عدة فجاء يرسم سيرة ويكتب مسيرة ويبني قيماً ويشيد أخلاقا.
جاء يرسم سيرة صاحبهِ نسباً يقول:
إنــي إلـى عمـرو بـن عـوف ورافـع | وإلــى الحبــاب نمتنــي الأبــاء |
مـن معشـر ورثوا الحروب وفي الندى | ضـــربت بهـــم أمثالهــا العقلاء |
وجاء يرسم منزلة إجتماعية يقول:
وكــم فتنــة لــولاي شــب ضـرامها | مشـــيت باصـــلاح لهـــا وصـــلات |
وجاء يرسم حنينا إلى أرض النشأة الأولى وموطن الذكريات الأول يقول:
علـى الـرأس منـي دمعـة قـد أسحها | فيعجــب منــي بـارد القلـب سـاكن |
علـى الـرأس منـي فـي ربـوع أحبها | بــديرة ميثــاق شــجته الشــواجن |
تـــراب بجلـــدي لا أمــل غبــاره | ففيــه شـفا نفسـي وفيـه المسـاحن |
لقــد قمصــتني منــه أمـي ترابـه | وبيـــن ذراه مـــوئلي والمســاكن |
وقد جاء يكتب مسيرة تاريخ الإمارات من خلال إلتصاقه بشخصيات قادت هذا البلد في مسيرة تقدمه وخاصة شخصية الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الذي رأى فيه قبل تسلمه مقاليد الحكم البطل الفذ الذي يتطلع إليه الجميع وينتظره الجميع يقول فيه قبل توليه الحكم بستة شهور:
فيـا بطـل الأبطـال والقـائد الـذي | إليـه الخليـج اليـوم آمـاله تحدو |
رآى فيــك مقــداما وبــاني نهضـة | وحمــال أعبــاء إذا أطبـق الجهـد |
فسـر فـي طريـق المجد وارفع لواءه | فإنـا بنـو هـذا الخليـج لـه جنـد |
وإذا كانت هذه القصيدة تعكس ما للشعر من قدرة إستشرافية تنبؤية فإنها تعكس ما لصاحبها من دقة حدس ودقيق فراسة مما يترجم صدق تعامله مع موضوعاته وعمق تصوره في التخييل.
ولم يقتصر الديوان على ذلك بل بنى قيماً وشاد أخلاقآ ولعل من أبرز تلك القيم حب الوطن والتشبث به يقول:
وطنــي العزيـز ثـراك عنـدي عنـبر | .. |
وأجـــاج مـــائك سلســبيل كــوثر | .. |
ولظى هجيرك في فؤادي سكر=..3
كما أن من أبرز تلك الأخلاق الحث على العلم والتعلم وضبط الأمور بالبراهين العقلية المرتكزة على مقاييس العلم:
ومـن موجبـات العلـم فلسـفة العلى | نتائجهــا كشــف الحقـائق للغمـر |
فميــزان أفكــار الرجــال تقيمـه | ضـوابط مـن بحر البراهين لو تدري |
ولا خيـر فـي عقـل إذا لـم يكـن له | معيـن مـن العلم المعون في السطر |
وإذا كانت هذه نماذج تعكس تعدد الموضوعات التي تطرق إليها الشيخ في شعره فإنها تعكس كذلك خصب مخيلته الشعرية وقدرتها على مفارقة التقرير والتعبير المباشر، على الرغم من أن شهرته العلمية والفقهية بصورة أخص غطت على شهرته الشعرية، فهو شاعر غلب عليه العلم مثله في ذلك الإمام الشافعي والخليل بن أحمد وأبو بكر ابن دريد فهؤلاء شعراء طغت شهرتهم العلمية على نزعتهم الشعرية ورغم ذلك فقد خلفوا دواوين يقصر عن شاعريتها كثير من الشعراء.
واذا كان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قد قال:
ولــولإ الشــعرُ بالعلمــاء يُــزري | لكنــتُ اليـــوم أشــعر مِـن لبيـدِ |
فليس ذا إنكاراً لمطلق الشعر ولا حكماً عليهِ وإنما استنكاف عن مذهب الشعراء فيهِ مواضيع وَمَسَالِكَ تصريف تكسباً أو مَس أعراض، وهو رفض كذلك للتمحض له والاشتغال به دون غيره من العلوم التي هي للعالم أولى وبه ألصق وله أجدى.
لذا نرى الشيخ وعياً بهذا المعنى يؤثر خصيصة الفقه على صفة الشعر فيعرف نفسه بالفقيه قبل الشاعر يقول:
وأنا الفقيه الشاعر العربي من= قحطان في أعلى الذرى ليّ منزل
ورغم ذلك فقد جاء شعرُه بعيداً عن شعر الفقهاء رحب التخيل، متسع المجاز، جزل التعبير، متآخي المعاني ، دقيقَ النسج، قويّ اللحمة، تقرأه فتنسى أنك أمام علامة فقيهِ منهجه الحكم ونبراسه الدلي.
فهل لحظة الشّعر يختفي الشيخ الفقيه كما العكس تجلى في فتاويه وبحوثه العلمية؟
الشاعر: محمد ولد عبدي
الباحث باللجنة العليا للتراث والتاريخ.