ألطنبغا علاء الدين الجاولي، شاعر فارس ، فقيه أديب، كان عبدا مملوكا، فتخلص من رقه، وارتقى في الرتب والمناصب إلى أن صار واحدا من كبار أعيان عصره، قال ابن تغري بردي: (وهو أحد فحول الشعراء من الأتراك لا أعلم أحداً من أبناء جنسه في رتبته في نظم القريض، اللهم إلا إن كان أيدمر المحيوي فيمكن) ونعته الحافظ ابن حجر في "الدرر الكامنة" بالشاعر الظريف.
وكان من خُلَّص أصدقاء الصفدي، ترجم له في كتبه الثلاثة (ألحان السواجع) و(أعيان العصر) و(الوافي) قال:
(ألطنبغا (1) الأمير الأجل علاء الدين الجاولي مملوك ابن باخل، كان عند الأمير علم الدين سنجر الجاولي (2) دويداراً لما كان بغزة. وكان حسن الصورة تام القامة، وكان الجاولي يحسن إليه ويبالغ في الإنعام عليه، وكان إقطاعه عنده يعمل قريباً من العشرين ألفاً. (ثم ذكر بعض أخباره ثم قال):
وهو نادر في أبناء جنسه من الشكالة المليحة ولعب الرمح والفروسية والذكاء ولعب الشطرنج والنرد ونظم الشعر الجيد لا سيما في المقطعات فإنه يجيدها، وله القصائد المطولة، ويعرف فقهاً على مذهب الشافعي ويعرف أصولاً ويبحث جيداً، ولكنه سال ذهنه لما اجتمع بالشيخ تقي الدين ابن تيمية ومال إلى رأيه، ثم تراجع عن ذلك إلا بقايا.
واجتمعتُ به كثيراً في صفد وفي القاهرة ودمشق، وبيني وبينه مكاتبات ومجاراة ومطارحات ومباراة؛ لأنه كان ينظم الدُّرّ شعراً، ويُباهي به النَّثْرة والشعْرى، قد جوَّد المقاطيع، وأبرزها كأزهار الربيع، ولكن قصائده دوَّنها في الطبقة، وبروقها ليست في سماء الإجادة مؤتلقة.
وكان وجهاً في حسنه بديعاً، ومحيا يذر قلب ناظره صريعاً، مديد القامة، يرهي على بدر وجهه من شعره ظلامة. وكان بالكيمياء مغرى، قد أنفق فيها مالاً ودهراً. وخرج من الدنيا رحمة الله تعالى وهو
يرى كفه صفراً.
وكان صحيحاً وده، محكُّ إخلاصه لا يرده، قلَّ من صحبته فأنصفني مثله في الحضور والغيبة، لا أسمع منه كلمة جفاء، ولا يبلغني عنه غيبة. ولم يزل شملي به مجموعاً، وقولي عنده، كما أمره عندي مسموعاً. إلى أن استقى على غير ظما. وصافحه في قبره الحور وملائكة السَّما.
وكتبتُ أنا إليه من صفد وهو بدمشق أتشوّق إليه في سنة ثماني عشرة وسبع مئة من جُملة قصيدة:
بالله يا بارقاً من قاسيون بَدَت |
أعلامُــه خافقــاتٍ فــي دَيـاجيه |
(انظر القصيدة كاملة في القطعة الضادية التي أولها (وسود صيرتها السود بيضا)
قال ابن تغري بردي بعدما نقل كلام الصفدي في الوافي وزاد ثلاث قطع من شعر ألطنبغا:
(ثم صار ألطنبغا المذكور من جملة أمراء دمشق في أواخر عمره إلى أن توفى بها في ثامن شهر ربيع الأول سنة أربع وأربعين وسبعمائة. (3) قال ابن حبيب بعلة الاستسقاء رحمه الله تعالى)
ومن طريف ما حكاه الصفدي عنه قوله: وقال لي: امتدحت الأمين الأمير (يعني مخدومه علم الدين سنجر الجاولي) مرة بقصيدة كانت ستين بيتاً، فأمر لي لكل بيت بدينار. وقال لي: لو كانت مئة ألف كانت مئة.
(1) قال القلقشندي في "صبح الأعشى"
والترك - راعوا في أسمائهم ما يدل على الجلادة والقوة مما يألفونه ويجاورونه، وغالب ما يسمون باسم بغا، ومعناه بلغتهم الفحل: إما مفرداً كما تقدم وهو قليل، وإما موصوفاً بحيوان من الحيوانات، مقدمين الصفة على الموصوف على قاعدة لغتهم في ذلك، كطيبغا بمعنى فحلٍ مهرٍ. وإما بمعدنٍ من المعادن: كألطنبغا بمعنى فحلٍ ذهبٍ، ...إلخ ) (وكل هذه الأسماء تلفظ اليوم بالتاء مكان الطاء، ألتونبغا، ألتونجي)
(2) نائب الكرك ثم نائب حماة فغزة وهو أول من بنى في الكرك دارا للنيابة، له آثار عمرانية جليلة ووفاته في رمضان 745هـ وألف كتابا ضخما في شرح مسند الإمام الشافعي، عاونه عليه جماعة من أكابر عصره. انظر ترجمته في "الدرر الكامنة" وأولها: (سنجر بن عبد الله الجاولي أبو سعيد ولد سنة 653 بآمد ثم صار لأمير يقال له جاول) وأخباره في كتاب السلوك للمقريزي كثيرة جدا. وفيها أن مدة اعتقاله كانت ثماني سنين وثلاثة أشهر وأحد عشر يوماً، وكان فيها ينسخ القرآن وكتب الحديث ونحوه. ومن اهم ما ذكره من أخباره سحقه ثورة أهل قلعة السلع قال في حوادث ربيع الأول من عام 717هـ (وفيه حاصر الأمير سنجر الجاولي قلعة سلع - ومعه نحو العشرة آلاف فارس - مدة عشرين يوماً إلى أن أخذها، وقتل من أهلها ستين رجلاً من العرب المفسدين، وغنم العسكر منها شيئاً كثيراً، ورتب الجاولي بها رجالاً وعاد إلى غزة) قال الصفدي في "اعيان العصر" في ترجمة سبط الملك الحافظ الأيوبي (ولما توجه الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب من صفد والأمير علم الدين الجاولي لحصار سلع، عمل رسالة في ذلك نظماً ونثراً، وسمعتها من لفظة غير مرة، ومما جاء فيها نظماً:
دعـت قلعـة السـلع مـن قـد مضى |
بلطـــف إلــى حبهــا القاتــل |
وغرتهـــم حيـــن أبــدت لهــم |
محيـــاً كبـــدر دجـــى كامــل |
ولمــا اســتجابوا لهـا أعرضـت |
دلالاً وقــــالت إلــــى قابـــل |
تفـــانى الرجــال علــى حبهــا |
ومـــا يحصـــلون علــى طــائل |
(وانظر ديوان سبط الملك الحافظ.)
(3) الموافق 30/ 7 / 1343م وتوفي الصفدي بعد هذا التاريخ بعشرين سنة. ويلاحظ هنا ان علاء الدين الجاولي الذي ذكره ابن كثير في وفيات سنة 745 هو علم الدين الجاولي وما ورد خطأ مطبعي وما أكثر الأخطاء المطبعية في "تاريخ ابن كثير" بل هو مضرب المثل في ذلك.