مقدمة أبي العلاء لديوانه لزوم ما لا يلزم (وهي مقدمة لا تزال تفتقر للتدقيق اللغوي:
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو العلا أحمد بن عبد الله بن سليمان الضرير (رهنُ المحبسين - وإنما قال بقضاء لا يشعر كيف هو)
كان من سوالف الأقضية أني أنشأتُ ابنية أوراق توخّيتُ فيها صدق الكلمة ونزّهتها عن الكذب والميط ولا ازعمها كالسمط المتخذ وأرجو أن لا تحسب من المسيط فمنها ما هو تمجيد لله الذي شرُف عن التمجيد ووضع المنن في كل جيد وبعضها تذكيرٌ للناسين وتنبيه للرقدة الغافلين وتحذيرٌ من الدنيا الكبرى التي عبثت بالأول واستجيبت فيها دعوة جرولٍ اذ قال لأمه
جزاك الله شرّاً من عجوزٍ ولقّاك العقوق من البنينا
فهي لا تسمح لهم بالحقوق وهم يباكرونها بالعقوق.
وإنما وضعت أشياء من العظة وأفانين على حسب ما تسمح به الغريزةُ فإن جاوزت المشترط إلى سواه فان الذي جاوزت اليه قول عريّ من المين.
وجمعت ذلك كله في كتاب لقبته (لزوم ما يلزم) ومعنى هذا اللقب أن القافية تلزم لها لوازم لا يفتقر اليها حشو البيت ولها اسماء تعرف وسأذكر منها شيئا مخافة أن يقع هذا الكتاب إلى قليل المعرفة بتلك الأسماء.
والذي سمّاه المتقدمون من لوازم القافية خمسة أحرف وست حركات.
فالاحرف الرويّ والردف والتأسيس والوصل والخروج.
فاما الرويّ فاثبت حروف البيت وعليه تبنى المنظومات وهو يكون من أي حروف المعجم وقع إلا حروفا تضعف ولا تثبت كألف الترنم وواوه ويائه وهاء الوقف وهاءات التأنيث إذا كان ما قبلها متحركا والالف التي تلحق علما للتثنية في مثل ضربا وذهبا. والواو التي تدل على الجمع إذا كان مضموما ما قبلها في مثال ضربوا وقتلوا وغير ذلك من الحروف فإن اتفق غير ما ذكرت فهو شاذٌ مرفوضٌ.
والرويّ له ثلاث منازل:
يكون آخر حرف في الشعر المقيد ولا ينكر هذا القياس في رأي المتقدمين
ويكون بينه وبين انقضاء البيت حرف أو حرفان وذلك في الشعر المطلق والذي بين رويه وبين انقضاء وزنه حرف واحد فانما تجيء بعد رويه الصلة لا غير
وهي تكون احد اربعة احرف وتكون الأحرف الواو والالف والياء والهاء
واما الذي يقع بعد رويه حرفان فهو ما تحرك هاء وصله فلزمها الخروج. كقوله:
في ليلةٍ لا نرى بها أحدا يحكي علينا إلا كواكبها
فالباء هي الروي والهاء وصل والالف خروجٌ.
واما التأسيس فالف بينها وبين حرف الروي حرفٌ يسمى الدخيل ولا تلزم اعادته كما تلزم اعادة الروي والتأسيس كقول القائل:
ألا يا ديار الحي بالاخضر اسلمي وليس على الأيام والدهر سالم
فألف سالم تأسيسٌ واللام دخيلٌ والميم رويّ .
وألف التأسيس على ضربين أحدهما أن تكون هي والرويّ من نفس الكلمة كألف عالم ومالك أو يكون الرويّ ضميراً متصلا فيجري مجرى حرف الكلمة الأصلية كالكاف في دارك وغلامك.
والآخر أن تكون الألف من كلمة والرويّ من كلمة أخرى فإذا اختلف الرويّ والتأسيس وكانا من كلمتين فإن الثانية التي فيها الرويّ لا تخلو من أحد أمرين إما أن تكون مضمراً منفصلاً مثل هما وهو وهي وإما أن تكون مبنية من ضمير متصل وحرف فالأول كقول زهيرٍ:
فأين الذين يحضرون جفانه إذا وضعت ألقوا عليها المراسيا
ثم قال:
رأيتهم لم يدفعوا بنفوسهم منيّته لما رأوا أنها هيا
فألف أنها تأسيسٌ والهاء من هي دخيلٌ والياء رويّ.
والثاني كقول زهير أيضاً
بدالي أن الله حقّ فزادني إلى الحق تقوى الله ما قد بدا ليا
وفي القصيدة جائيا وناجيا.
وإذا كان التأسيس منفصلا جاز أن يجعل لغوا فلو بنيت قصيدةٌ قوافيها معطيا ومواليا ثم جاء فيها بداليا لكان ذلك عند أهل العلم جائزاً وذلك قليل في الاستعمال وكذلك لو بنيت أخرى قوافيها منعما ومكرما لجاز أن يجيء فيها كما هما على أن تجعل الألف في كما لغوا فاذا كانت الألف في كلمة وبعدها كلمة ليست كم تقدم ذكره فانها لا تجعل تأسيسا كما قال العجاج:
فهنّ يعكفن به إذا حجا عكف النبيط يلعبون الفنزجا
فالف إذا ليست ألف تأسيس لأن حجا ليست كلمة مضمرة ولا فيها حرف اضمار فهذا رأي المتقدمين.
ولا يمتنع في حكم الغريزة أن تكون الألف تاسيساً وبعدها كلمةٌ ليس فيها إضمار مثل شم وطر ومن الأبيات الموضوعات للمعاني:
أقول لعبد الله لما سقاؤنا ونحن بوادي عبد شمس وهاشم
فهذا ألغز قوله وهي شم وهو يريد وهي من الوهي وشم من شيم البرق عن قوله وهاشم إذا كان هاشم اسم رجل. فلو جاءت بعد ذلك الخضارم والاكارم ودايم ونحوها لكان عندي غير قبيح ويقويه أن شين "شم " مكسورة والغالب على ألفات التأسيس أن يكون ما بعدها مكسورا فقد الف فيها هذا النوع حتى صار كأنه لازم وقلما توجد قصيدة مؤسسة يكون ما بعد تأسيسها مضموما أو مفتوحا إلا أن تكون قد بنيت على المضمر في مثل قولك رآهما واتاهما كما قال:
ألم تر أني وابن أسود ليلةً لنسري إلى نارين يبدو سناهما
ومن عاداتهم إذا بنوا القصيدة على هذا القريّ أن يلزموا فيها المضمر إلا أن يشذّ شيءٌ فيجيء على غير الإضمار أو تكون القصيدة المؤسسة التي بعد تأسيسها فتحة مبنية على كاف إضمار مثل أن تبني على "اصابك" و"اشابك" ونحو ذلك. والتأسيس له ثلاث منازل فالأولى أن يكون بينه وبين انقضاء البيت حرفان وذلك في الشعر المقيّد كقوله:
نهنه دموعك إن من يبكي من الحدثان عاجز
والثانية أن يكون بين التأسيس وبين انقضاء البيت ثلاثة أحرف وذلك في الشعر المطلق الذي لا يلزمه خروج كقوله:
يديرونني عن سالم وأديرهم وجلدةُ بين العين والأنف سالم
فألف سالم تأسيس واللام دخيلٌ والميم رويّ والواو التي بعد الميم وصل. والثالثة أن يكون بين حرف التأسيس وبين انقضاء البيت أربعة أحرف وذلك في الشعر الذي يلزمه
الخروج كقوله:
يوشك من فرّ من منيّته في بعض غرّاته يوافقها
وأما الردف فألف أو واوٌ أو ياء ساكنتان تكونان قبل الروي ولا حاجز بينهنّ وبينه فاما الألف فلا يكون ما قبلها إلا مفتوحا وأما الواو والياء فيجوز أن تختلف حركات ما قبلهما
وهما في ذلك ردفان. وللردف ثلاث منازل إما أن يكون بينه وبين انقضاء البيت حرف واحد وذلك في الشعر المقيد كقول طرفة ابن العبد البكري:
وجامل خوّع من نيبه زجر المعلى أصلا والمنيح
فالياء في المنيح ردف وكذلك الواو في قول الراجز:
هل تعرف الدار بأعلى ذي الفور قد درست غير رماد مكفور
فالواو في فور ومكفور ردف وليس بعدهما من بناء البيت الأحرف واحد. وكذلك يجوز أن يقع ما قبل الياء والواو الفتحة في الشعر المقيد فالواو كقول الراجز:
ما لك لا تنبح يا كلب الدوم بعد هدوء الحي أصوات القوم
قد كنت نبّاحا فمالك اليوم
والياء كقول الآخر:
يمنعها شيخٌ بخدّيه الشيب لا يحذر الريب إذا خيف الريف
والألف في المقيد كقوله:
ما هاج حسان رسوم المقام ومظعن الحي ومبني الخيام
وأما أن يكون بين الردف وبين انقضاء البيت حرفان وذلك في الشعر المطلق الذي لا خروف له كقوله:
تقوه أيها الفتيان أني رأيت الله قد غلب الجدودا
وكقوله في الواو المفتوح ما قبلها:
ومشبهنّ بالخبيب مور كما تهادى الفتيات الزور
وكقوله في الألف:
أقلّي اللوم عاذل والعتابا
وكقوله في الياء المكسور ما قبلها:
بصبصنَ بالأذناب إذ حدينا
وكقوله في الياء المفتوح ما قبلها:
أيا سحا بطرّفي بخير
وأما إن يكون بينه وين انقضاء البيت ثلاثة أحرف وذلك في الشعر الذي له خروج ولا بدّ قبل خروجه من الهاء المتحركة كقول كثيّر:
فلم تبد لي يأسا ففي اليأس راحة ولم تبد لي جودا فينفع جودها
ويجوز أن يكون الردف والروّي من كلمة واحدة ويجوز أن يكونا من كلمتين ولا اختلاف في ذلك بين المتكلمين في هذه الأشياء فكونهما من كلمة واحدة كقول الراجز:
إنّ القبور تنكحُ الآيامي وتثكل الأصغار اليتامي
والمرء لا يبقى له سلامى
فالألف الأولى في الأيامي واليتامى والسلامى ردفٌ والميم روي والألف الثانية التي هي في اللفظ الف وبعض الكتاب يصورها ياء تكون في هذا الشعر وصلا ويجوز أن تجيء معها
بمثل قولك إذا ما وعلى ما فيكون الردف والرويّ من كلمتين ولا يمتنع أن يكون معها سلاما وغلاما فتكون الف الوصل بدلاً من التنوين والتنوين ليس من نفس البنية. قال بشر بن أبي
حازم:
فسعداً فسائلهمُ والرباب وسائل هوزان عنا إذا ما
لقيناهم كيف نعليهم بواتر يفرين بيضا وهاما
وكذلك يجوز في المرفوعات أن تجيءً بقافية على قولك يا دو أي يختل وتكون الهمزة مخففة لتكون ردفا ثم تقول الأدوا تريد دوا من الدية.
ثم يجوز مع ذلك يعاد من العيادة على أن تلحقه واو الترنم. والوصل يكون واوا أو ياء أو الفا أو هاء فالياء والواو والالف لهنّ منزلةٌ واحدةٌ يكنّ في آخر البيت وطالما حذفن في
الوقف فالواو كقول الشاعر:
أرى كلّ قوم قاربوا قيد فحلهم ونحن خلعنا قيده فهو سارب
والياء كقوله:
إذا قلت يا قد حلّ ديني قضينني امانيّ عند الزاهرات العواتم
والألف كقول لبيدٍ:
لعبت على أكتافهم وحجورهم وليداً وسمّوني مفيداً وعاصما
والهاء إذا كانت ساكنة فمنزلتها كمنزلة هذه الحروف وذلك كقول جرير:
لنا كل مشبوب يروّى بكفه غرار سنان ديلمي وعامله
فالهاء وصل وإذا كان الوصل متحركا فبينه وبين انقضاء البيت حرف ساكن وهو الذي يسمى الخروج ويكون واوا أو ياء أو الفا فالواو كقول الشاعر:
ينزو عليها بجزعٌ لقحت منه وشرّ الخلق بجزجه
والياء كقول أبي النجم:
انقضّ مثل النجم من سمائه رجم به الشيطان في ظلمائه
والألف كقول عدي:
لم ار مثل الفتيان في غير ال أيام يدرون ما عواقبها
ولا يكون الخروج آخر حرف في البيت فهذه خمسة أحرف لهن اثنتا عشرة منزلة للروي ثلاث وللتأسيس ثلاثٌ وللردف ثلاثٌ وللوصل اثنتان وللخروج واحدةٌ فإذا جاء بيت
مؤسس وبيتٌ غير مؤسس فذلك عيب يزعمون انه يسمى السناد وهو قليل وقدر زعموا أن العجاج قال
يا دار سلمى يا سلمي ثم اسلمي بسمسم أو عن يمين سمسم
وقال فيها:
فخندق هامة هذا العالم
ورووا أن رؤبة كان يعيب هذا من كلام أبيه. وحكى يونس أن العجاج كان يهمز العالم فان صحّ هذا فلا سناد في البيت. ويحسن من السناد الذي يجيء في المطلق المؤسس أن
تكون حركة الدخيل فتحة لانه يقرب بذلك من المجرد. والمجرد الذي لا يلزمه إلا الرويّ والوصل إذا كان مطلقا والروي وحده إذا كان مقيدا وفي مجيء الفتحة بعد التأسيس ما
يخرج السامع عن العادة لان اكثر ما أسس من أشعار العرب انما يكون بعد الفه كسرةٌ كحامل وراسم وفي قصيدة العجاج (مكرم للأنبياء خاتم) فإن روي بكسر التاء فهو اشنع
وان روي بفتحها فهو اسهل وان همز فقد خرج من علة السناد. وإذا جاء بيت بردف وبيت لا ردف فيه فذلك سناد أيضا مثل أن يجيء الصرف مع الطوف والقيل مع القول
وقد روي أن الخطيئة قال:
إلى الروم والأحبوش حتى تناولا بأيديهما مال المرازبة الغلف
وبالطوف نالا خير ما ناله الفتى وما المرء إلا بالتقلّب والطوف
فجاء بالطوف مع الغلف والغرف وإنما يستعملون هذا في الوار التي قبلها فتحة أو الياء التي ما قبلها مفتوح أيضا فإذا انضم ما قبل الواو وانكسر ما قبل الياء كمل فيهما اللين
واستقبحوا أن يجيئوا بهما مع الحروف المصمتة مثل أن يجيئوا بعود مع جند وزند أو بعير مع ستر وفتر. فأما الأبيات التي تنسب إلى الكاهنة التي لها حديث مع عبد الله بن عبد
المطلب أعني قولها:
أني رأيت غمامة برقت بيضاء بين حناتم القطر
وظننته شرفا لصاحبه ما كل قادح زنده يوري
فإن الواو قويت لان بعد الراء ياء اصلية يجوز أن تجعل رويا ولا يمتنع أن تكون لغة الكاهنة الهمز على لغة من قال مؤسى فهمز الواو لمجاورة الضة كما يهمزها إذا كانت الضمة
فيها موجودة. وقد يجوز أن تكون من باب السناد فإن صح فهو اشنع ما يكون. وإذا اختلف الروي فكان مرة دالا ومرة ذالا أو سينا وشينا أو نحو ذلك من الحروف المتقاربة
فهوالذي يسمّى الإكفاء قال الراجز:
قد علمت بيض يمسن ميسا إلا أزال فقّة وريشا
حتى قتلت بالكريم جيشا
وأما الوصل فإذا اختلف فكان مرة واوا ومرة ياء فذلك الإقواء وأما هاء الوصل إذا كانت ساكنة فإنها لا تحتمل أن تغير وإذا كانت متحركة فقلما يلحقها التغيير. وزعم أبو عمر
الجرمي أنه لم يسمعه وإن جاء فهو نحو الإقواء. وأما الخروج فتغيره متعلق بتغير هاء الوصل لأنه لا يوجد إلا وهي متحركة فإن جاء فهو نحو الإقواء وأما الحركات فمنها الرس وهي
فتحة ما قبل التأسيس وقد ذكرها الخليل وابن مسعدة وكان الجرمي يقول لا حاجة إلى ذكر الرس لان ما قبل الألف لا يكون إلا مفتوحا وهذا قول حسن إذا كانوا انما اوقعوا التسمية
على ما تلزم اعادته فإذا فقد اخل وهذه حركة لا يجوز عندهم أن تكون غير الفتحة فلا حاجة إلى ذكرها فيما يلزم:
ومن الحركات الإشباع وهو حركة الحرف الذي بين الف التأسيس وحرف الروي في الشعر المطلق وذلك الحرف يسمى الدخيل ويقال إن الخليل لم يذكر الإشباع وان سعيد بن مسعدة
ذكره فيجوز أن يكون اسما وضعه ويجوز أن يكون تلقاه عمن قبله من أهل العلم وقد روؤس في القوافي كتاب للفراء وكتاب لخلف بن حيان فإن لم يخلوا من ذكر الإشباع فهذا
يدل على أن سعيد بن مسعدة أخذ هذا الاسم عن غيره اذ كان هذان الرجلان في القدم نظيره ويجب أن يكون خلف مات قبله بمدة طويلة فاما موته وموت الفراء فمتقاربان وهذه
الأسماء الموضوعة لا يعقل مثلها سكان العمد فإن كانت تلقيت عن العرب فيجب أن يكون من أخذ عنه ذلك يعرف حروف المعجم ويقرأ الصحف وقد كان فيهم رجال يقرأون
ويكتبون ويعرفون مواقع الحروف وقد ذكر أبو عبيد القاسم بن سلام في المصنف بابا للقوافي وأسند بعض القابها عن الشيوخ فهذا يدل على انه كان يعتقد انها مأخوذة عن العرب كما
تؤخذ عنهم اللغة. فإن كان الأمر على ما ذهب اليه فيحق أن يكون المأخوذ عنه متميزاً من الطغام لا يجهل منزلة الميم من النون ولا الباء من الفاء. وقد توسّع الذين وضعوا كتب
القوافي في الأشباع حتى جعلوه حركة ما قبل الروي في الشعر المطلق وان كان غير مؤسس فقالوا في قول الأخطل:
عف واسط من آل رضوى فنبتل فمجتمع الحرّين فالصبر أجمل
فتحة التاء في نبتل والميم في اجمل اشباع ولا يحسن أن يكون الأمر كذلك لآنّ هذه الحركة ليست لازمة ولا ينكر تغيرها السمع وإنما تنكر الغريزة تغير حركة الدخيل وإذا أصابها
التغيير فهو سناد وأكثر ما جاءت حركة الدخيل كسرة فإذا جاءت الضمة والفتحة فذلك هو المكروه والضمة مع الكسرة أيسر لأنهما اختان والفتحة معهما اشنع ويدلك على ذلك
أن مجيئهم بالضمة مع الكسرة من مجيئهم بالفتحة مع إحدى الحركتين وقد جاء النابغة بالضمة مع الكسرة في غير موضع من شعره فقال في العينية:
يُردن إلالاً سيرهنّ تدافع
فضم الفاء وحركة الدخيل مكسورة في كل أبيات القصيدة سوى هذا البيت وقال في اللامية التي أولها:
دعاك الهوى واستجهلتك المنازل وكيف تصابي المرء والشيب شامل
سجوداً له غسان يرجون فضله وترك ورهط الأعجمين وكابل
وقال أيضاً في أخرى:
لقد قلت للنعمان لما رأيته يريد بني حن بثغرة سادر
تجنب بني حن فإن لقاءهم كرية وأن لم تلق إلا بصابر
ثم قال فيها:
هم منعوها من قضاعة كلها ومن مضر الحمراء عند التغاور
وقال الهذليّ:
لعمر أبي عمرو لقد ساقه المنى إلى قدر يوزى له بالاهاضب
وقال فيها:
فلم يرها الفرخان بعد مسائها ولم يهدأ في عشها من تجاوب
وهو كثيرٌ والفتحة في مثل هذا النحو اقل. وقد زعموا أن ورقاء بن زهير قال:
دعاني زهيرٌ تحت كلكل خالد فجئت اليه كالعجول أبادر
إلى بطلين ينهضان كلاهما يحاول نصل السيف والنصل نادرُ
فشلّت يميني يوم أضرب خالد ويمنعه مني الحديد المظاهر
وقد جاءت أشياء من هذا النحو إلا أنها أقل من النوع الأول. ومن الحركات الحذو وهو
حركة ما قبل الردف فإذا كان الفا فلالف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا ويلزم أبو عمر
الجرمي ألا يجعل الألف حذوا كما لو يجعل التأسيس رسا وإذا كان الردف واوا فاكثر ما
استعمل ما قبله مكسورا ويجوز الواو المضموم ما قبلها مع الياء المكسور ما قبلها ولا
يجتنب ذلك احد منهم
قال عمرو بن كلثوم:
ألا هبّي بصحنك فاصجينا ولا تبقي خمور الأندرينا
ثم قال فيها:
ذراعي عيطل أدماء بكر تربّعت الأجارع والمتونا
وجاء بالواو في غير موضع من القصيدة والياء عليها اغلب
وقال الجميح الأسديّ:
أما إذا حردت فمجرية ضبطاء تمنع غيلا غير مقروب
وان يكن حادث يخشى فذو علق نظل تزجره من خشية الذيب
فضة رآء مقروب حذو وكذلك سكرة ذال ذيب. ومثل هذا كثير موجود لا يهجر ولا
يعاب. وإذا افنتح ما قبل الواو حسن عندهم أن تجيء مع الياء المفتوح ما قبلها ولم يروا
ذلك عيبا كما قال بعض اللصوص:
أقلي علي اللوم ساحبة الذيل فلا بدّ أن تستطرد الخيل بالخيل
ثم قال فيها:
أصدق وعدي والوعيد كليهما ولا خير فيمن لا يرى صادق القول
ولم يفرقوا بين المقيد والمطلق في مجيء الواو المضموم ما قبلها مع الياء المكسور ما قبلها
والياء التي قبلها فتحة مع الواو التي ما قبلها مفتوح وانا افرق بين المطلق والمقيد واعدّه في
المقيد اشدّ لان الرويّ لا يكون بعده ما يعتمد عليه قال الراجز في الواو المضموم ما قبلها مع
الياء التي قبلها كسرة:
إن تشربي اليوم بحوضٍ مسكور فربّ حوض لك ملآن السور
مدوّر تدوير عش العصفور خير حياض الإبل الدعاثير
فهذا عندي اقبح منه إذا استعمل في الشعر المطلق وقال الراجز في الفتحة مع الواو والياء
والقافية مقيدة في صفة الجرادة:
ملعونة تسلخ عن لون لون كأنها ملتفّة في بردين
وإذا جاءوا بالضمة والكسرة مع الفتحة فذلك عندهم عيبٌ وهو من السناد ويجب أن
يكون في المقيد اشنع قال عمرو بن معدي كرب:
تقول ظعينتي لمّا رأته شريجاً بين مبيض وجون
تراه كالثغام يعلّ مسكا يسوء الفاليات إذا فليني
فهذا لا يكره لان ما قبل الياء والواو فتحة وقال أيضاً فيها:
لصلصلة اللجام برأس مهر احبّ اليّ من أن تنكحيني
فكسرة الحاء في تنكحيني سناد وأما الألف فلا يشركها غيرها في المطلق ولا المقيد. ومن
الحركات التوجيه وهو حركة ما قبل الرويّ في الشعر المقيد وكان الخليل يرى الضمة مع
الكسرة جائزة وينكر معهما الفتحة وزعموا انه كان يجعله من السناد وكان سعيد بن
مسعدة لا يرى ذلك عيبا لكثرة ما استعمله الفصحاء قال أبو ذؤيب:
عرفت الديار لأم الرهي ن بين الظباء فوادي العُشر
أقامت به وابتنت خيمة على قصب وفرات النّهر
ثم قال فيها:
فجاء وقد فصّلته الجنو ب عذب المذاقة بسرا خصر
ومثل هذا كثير ولم يفرقوا بين المقيد المجرد والمقيد المؤسس وهو عندي في المؤسس اقبح
لانه يختلف الحرف بالحركات بين حرفين لازمين واذا كان المقيد مجردا لم يكن قبل التوجيه
حرف لازم ومن المؤسس المقيد الذي اختلفت فيه الحركة قول الخطيئة:
هاجتك الظعانٌ للي لى يوم ناظرة بواكر
ثم قال فيها:
الواهب المائة الصفا يا فوقها وبرٌ مظاهر
ومن الحركات المجرى وهي حركة حرف الروي فإذا اختلفت فهو الإقواء واكثر ما يجيء في
المرفوع والمخفوض ويقال انهم اجترأوا على ذلك لانهم يقفون على الروي بالسكون وانما
اجازوا ذلك في المرفوع والمخفوض وكرهوا الفتحة أن تجيء مع الكسرة والضمة فاما الخليل
وابن مسعدة فلم يذكراه وقد جاءت اشياء في الشعر القديم بعضها منصوبٌ وبعضها مرفوع
أو مخفوض وانما يحمل ذلك على الوقف لانه يبعد أن يقول عربي فصيح له علم بالشعر:
ألم تغمض عيناك ليلة أرمدا وبتّ كما بات السليم مسهّدا
فيجيء بالألف ثم يجيء ببيت مرفوع أو مخفوض إذا كانت الألف منافية للواو والياء واذا
حكم بالوقف على القافية فلا فرق بين الحركات الثلاث على أن تعاقب الحركتين الكسرة
والضمة اكثر من معاقبة الفتحة لاحدى هاتين وانما يكثر الإقواء إذا كان الوصل غير هاء
فاما إذا كانت الهاء بعد الروي وكانت متحركة أو ساكنة فانهم يلزمون في الروي حالا
واحدة وقد جاءت اشياء في شعر الإسلاميين على اختلاف الروي في الحركة وبعده الهاء
كقول عمران الخارجي:
الحمد لله الذي يعفو ويشتد انتقامه
وقال فيها:
فهناك مجزأة بن ثو ر كان أشجع من أسامة
وأشياء نحو هذا كثيرة وروي أن أبا عمرو بن العلاء كان ينشد قول الأعشى:
هذا النهار بدا لها من همها ما بالها بالليل زال زوالها
فيرفع اللام من زوالها والقصيدة معروفة واللام فيها كلها مفتوحة . ومن الحركات النفاذ
وهي حركة الوصل كقول لبيد العامري:
عفت الديار محلها فمقامها وقلما يغيرون هاء الوصل وان جاء من
تغييرها شيء فهو نحو الإقواء ومنازل الحركات اثنتا عشرة منزلة للرس ثلاث إحداها أن
يكون بينها وبين انقضاء البيت ثلاثة احرف (التأسيس والدخيل والروي) وذلك في الشعر
المقيد والثانية أن يكون بينها وبين انقضاء البيت اربعة احرف (التاسيس والدخيل والروي
والوصل) وذلك في الشعر المطلق الذي لا تتحرك فيه هاء الصلة والثالثة أن يكون بينها وبين
انقضاء البيت خمسة أحرف (التأسيس والدخيل والروي وهاء الوصل والخروج) وللحذو
ثلاث منازل إحداها أن يكون بينها وبين انقضاء البيت حرفان الردف والروي وذلك في
الشعر المقيد والثانية أن يكون بينها وبين انقضاءه ثلاث احرف الردف والروي والوصل
وذلك في الشعر المطلق الذي ليست فيه هاء وصل متحركة والثالثة أن يكون بينها وبين
انقضائه أربعة احرف الردف والروي وهاء الوصل والخروج وذلك في الشعر الذي تتحرك
هاء وصله. وللاشباع منزلتان إحداهما أن يكون بينها وبين انقضاء البيت حرفان الروي
والوصل وذلك في الشعر الذي ليس فيه وصل متحرك والثانية أن يكون بينها وبين انقضائه
ثلاثة احرف الروي والوصل والخروج . والحركة عند النحويين بعد الحرف فلذلك لم أذكر أن
الدخيل فيما يحجز بينها وبين انقضاء البيت. والتوجيه لها منزلة واحدة وهي أن تكون
قبل انقضاء البيت بحرف لانها لا تكون إلا في المقيد. والمجرى لها منزلتان إحداهما أن
تكون قبل انقضاء البيت بحرف وذلك في الشعر الذي ليس فيه هاء وصل متحركة والثانية
أن يكون بينها وبين انقضائه حرفان وهما هاء الوصل والخروج وذلك في الشعر الذي لا
تتحرك هاء صلته. والنفاذ لها منزلة واحدة لانه لا يكون بعدها إلا خروج فذلك اثنتا
عشرة منزلة فاذا جاء في الشعر شيء قد اتفق أن يلزم قائله شيئا غير هذه اللوازم فهو
متبرع بذلك كقول كثيرة عزّة:
خليليّ هذا ربع عزّة فاعقلا قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلّت
فلزم اللام المشددة قبل التاء إلى اخر القصيدة وقال كثير أيضاً:
اداراً لسلمى بالنباع فحمت سالت فلما استعجمت ثم صمّت
فلزم الميم كما فعل باللام وقد اختلفوا في بيت من القصيدة الأولى فروي باللام وبالنون وهو
قوله:
وجنّ اللواتي فلم عزّة جنّت
ويروى جلّت وقد فعل الأعشى مثل ذلك في اللام فقال:
فدىً لبني ذهل بن شيبان ناقتي وراكبها يوم اللقاء وقلّت
هم ضربوا بالحنو حنو قراقر مقدمة الهامرز حتى تولّت
وهذا انما يفعله الشاعر لقوته ولو تركه لم يدخل عليه ضعف:
قال الشنفري الأزدي:
أرى أمّ عمرو أزمعت فاستقلّت
وجاء في قوافيها بسربتي واقشعرّت وغير ذلك واكثر ما اتفق للعرب أن يلمزا حرفا لا يلزم
مع التاء التي للتأنيث أو الكاف التي للاضمار لانهما ضعيفتان وكلتاهما من حروف الهمس
فاما الهاء فخفيت وشابهت حروف اللين وما التاء والكاف فمحسوبتان من الحروف
الشديدة وهما قويتان إلا أنهما ضارعتا الهاء وكذلك ضارعتا الواو التي تكون علامة الجمع
في قولك ضربوا الألف في ضربا قال عمرو بن معدي كرب:
لما رأيت الخيل زورا كأنها جداول زرع أرسلت فاسبطرّت
فلزم الراء المشدّدة قبل التاء ولو جاء فيها بشلّت وحمّت لم يعب عليه والمحدثون اشدّ
تحفظا في هذه الأشياء من المتقدمين وقلما يلزمون مثل هذه الحروف وقد عمل الطائي على
قريّ كلمة الشنفرى وكلمة الأعشى فلم يلزم شيئا قبل التاء ولو بنيت قواف على ضربت
وكتبت تم جيء بوزنتُ لكان ذلك جائزاً بلا اختلاف إلا أن القائل إذا قوّاها بلزوم الباء
كان أحسن ومن تدبر ما ذكر ممن له أيسر غريزة علم إنّ وزنت مع ضربت في القوافي
أضعف من خبت مع سمت لأنّ هذه التاء من السنخ وربما لزموا اللام أو غيرها من
الحروف في مثل فعالك وجمالك مع تذكير الكاف أو التأنيث كقول أبي الأسود:
زهير بن مسعود أحق بما أتى وأنت بما تأتي حقيق بذلكا
وخبّرني من كنت أرسلت إنما أخذت كتابي معرضاً بشمالكا
نظرت إلى عنوانه ونبذته كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا
فلزم اللام وقد يجيئون بها على غير لزوم كما قال طرفة
قفي قبل وشك البين يا ابنة مالك وعوجي علينا من صدور جمالك
وقال فيها:
ظللت بذات الطلح عند مثقب بكينة سوء هالكا أو كهالك
تلفّ عليّ الريح ثوبي قاعدا لدى صدفيّ كالحثيّة بارك
وقد يلزمون التشديد في الروى كما قال النابغة:
عرفت منازلا بعريتنات فأعلى الجزع للحي المبن
فلزم التشديد إلى آخر القصيدة وكذلك قول الآخر:
إن بالشعب الذي دون سلع لقتيلا دمهُ ما يطلّ
شدد الروي في كل الأبيات والاكثر أن لا يلزموه كما قال الحطيئة:
أولئك قوم إن بنوا اسحنوا البنا وان وعدوا اوفوا وان عقدوا شدّوا
فشدّد في أبيات وتركه في غيرها وأوّل القصيدة:
ألا طرقتنا بعد ما هجعوا عند وقد سرن خمسا واتلأبّ بنا نجد
وقال المقنع الكنديّ فجمع بين التشديد وغيره:
وان الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جدا
اذا اكلوا لحمي وفرت لحومهم وان هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وقد كان بعض المتأخرين من أهل العلم يجعل تاء التأنيث وصلا وكلك كاف الإضمار لما
ودده من لزوم الشعراء أياهما في بعض الأشعار وذلك ينتقض عند العلماء باحكام القوافي
واصحاب هذا القول يعتقدون في قول الراجز:
شلّت يدا فارية فرتها وسحنت عين التي أرتها
مسك شبوب ثم وقرتها لو خافت النزع لأصغرتها
أن الرويّ التاء وهي ساكنة والهاء وصل وهي متحركة ولو جاء على مذهبهم في هذه القوافي خذها ومنها لكان عيبا والغريزة تشهد بما زعموه وقياس اقوال المتقدمين يوجب أن الرويّ الهاء وان الراجز لو جاء في مثل هذه القوافي بعنها ومنها ونحو ذلك لكان ما فعله غير معيب
وقد بنيت هذا الكتاب على بنية حروف المعجم المعروفة ما بين العامة لا التي رتبها العلماء بمجاري الحروف وأقدم بين يدي ما اذكره على جهة الإعتذار أن الناظر في الدواوين ربما قرأ منها الشيء الكثير لا يجد فيها أبياتا لزم فيها ما لا يلزم من الحروف فان وجده فهو نادر فامّا المتقدمون فقلما ينتظمون بالروي حروف المعجم لان ما روي من شعر امريء القيس لا نعلم فيه شيئا على الطاء ولا الظاء ولا الشين ولا الخاء ونحو ذلك من حروف المعجم وكذلك ديوان النابغ ليس فيه رويّ بني على الصاد ولا الضاد ولا الظاء ولا الشين ولا الخاء ونحو ذلك من حروف المعجم وكذلك ديوان النابغة ليس فيه روي بني على الصاد ولا الضاد ولا الطاء ولا كثير من نظائرهن وهذا شيء ليس بخفي. والمخدثون اكثر تحققا بالنظام لان فيهم قوما مستجرين يكون ديوان احدهم في العدة كدواوين كثيرة من اشعار العرب وهذا أبو عبادة وله شعر جم ولا اعلم فيما روي له شيئا على الخاء ولا الغين ولا الثاء إلا أن يكون شاذا لم يثبت في اكثر النسخ واذا اتفق لهم أن يجيئوا بالحرف وحركته ضمة أو غيرها فقلما يستوعبون مجيئة على كل الحركات وان استعملوه في حال الحركة جاز أن يلغوه من حال الإسكان مثال ذلك أن أبا الطيب استعمل الهمزة المضمومة
والمكسورة ولم يستعمل المفتوحة ولا الساكنة واستعمل السين المكسورة دون المفتوحة والمضمومة والساكنة. وكذلك جرى امر الشعراء المتقدمين والمحدثين يتبعن الخاطر كأنه هادي الركبان اينما سلك فهم له تابعون. وقد تكلفت في هذا التأليف ثلاث كلف الأولى أن ينتظم حروف المعجم عن آخرها والثانية أن يجيء رويه بالحركات الثلاث وبالسكون بعد ذلك والثالثة أنه لزم مع كل رويّ فيه شيء لا يلزم من ياء أو ثاء أو غير ذلك من الحروف ولو أن قائلا نظم قوافي على مثل مشوق ووسوق ولم يأتي بالياء لكان قد لزم ما لا يلزم لان العادة في مثل هذا المبنى أن تشترك فيه الواو والياء وكذلك لو لزم الياء وحدها في مثل قطي ن الكربان اينما سلك فهم له تابعون. وقد تكلفت في هذا التأليف ثلاث كلف الأولى أن ينتظم حروف المعجم عن آخرها والثانية أن يجيء روية بالحركات الثلاث وبالسكون بعد ذلك والثالة انه لزم مع كل روي فيه شيء لا يلزم من ياء أو ثاء أو غير ذلك من الحروف ولو أن قائلا نظم قوافي على مثل مشوق ووسوق ولم يأت بالياء لكان قد لزم ما لا يلزم لان العادة في مثل هذا المبنى أن تشترك فيه الواو والياء وكذلك لو لزم الياء وحدها في مثل قطين ومعين وليس في هذا من هذا النحو إلا شيء يسير وقد وجدت الذين الفوا دواوين المحدثين على حروف المعجم خالفوا فيما وضعوه مذهب الخليل وأصحابه وما أحمل ذلك منهم إلا على قلة حفل بتلك الأشياء فمن ذلك أنهم يجعلون ما قافيته هدية وبلية في باب الهاء وهذا وهم لأن أولى الحروف بأن تنسب إليه القصيدة هو الروي وهو في هذا النحو الياء وكذاك يجعلون ما قافيته ثناياها وعطاياها في جملة الألف وإنما ينبغي أن تكون في باب الهاء لأنها الروي ويجعلون ما قافيته مثل يديه وعليه في باب الياء وكذلك ما يبنى على محييها وفيها وإنما ينبغي أن يكون النسب في هذا كله إلى الهاء ودل كلام أبي بكر بن السراج في الأصول على أن الرويّ الياء في قول الشاعر:
لها أشارير من لحم تتمره من الثعالي وذخر من ارانيها
وهذا يشبه مذاهب المؤلفين ويجوز أن يكون مذهبا لابن السراج أو وهما منه لقلة عنايته بهذا النوع وقد روى أبو الحسن العروضي الذي كان في صحبة الراضي أن ابا اسحق الزجاج سئل عن الروي في قول الشاعر:
ميلو إلى الدار من ليلى نحييها
فزعم أنه الياء فروجع في ذلك فلم ينتقل عنه وانما ذكر أبو الحسن ذلك يعيبه عليه لأن مذهب الخليل والطبقة الذين بعده أنّ الرويّ الهاء وقد شاهدت بعض المتحققين بالأدب ببغداد يجعل الرويّ الياء في قول الشاعر:
يا أيها الراكبان السائران معا قولا لسنبس فلتقطف قوافيها
وما احسب هذا ممن قاله إلا وهماً لان الرويّ الساكن لا يكون بعده وصل وإنما يقع الإشكال في الهاء والواو والياء والالف. فاما الهاء فقد مر طرف من حكمها والاصل فيه انه إذا سكن ما قبلها كانت رويا ولا ينظر من السنخ كانت ام من غيره واذا كان ما قبلها متحركا وكانت من السنخ مثل الشبه والمشابه فإنها تكون رويا كما قال رؤبة:
قالت أبلي لي ولم أسبه ما السن إلا غفلة المدلّه
وربما بنيت الأبيات على أن تكون موصولة بهاء الإضمار ثم جعلت معها الهاء الأصلية وصلا أو بديء بالهاء الأصلية ثم دخلت عليها هاء الإضمار مثل أن تبني القصيدة على المكاره والمداره جمع مدره من قولك هو مدره القوم ثم يجاء بعد هذا بناره وجداره أو
أن تبنى القصيدة على مثل قولك غلابة وكتابه ثم يجيء فيها التشابه وربما اتفق ذلك في
الساكنة والمتحركة ولبس هو بعيب إلا اني اجعله ضعفا في البنية واذا تحرك ما قبل الهاء
وهي للاضمار أو للتأنيث أو للوقف مثل قولك يديه وغلاميه وذاكيه وضاريه فهي وصلٌ لا
غير ولا يجوز أن تجعل رويا واما الواو إذا كانت من السنخ مثل واو جرو ودلو فلا مرية في
أنها تجعل رويا للبيت واذا كانت للاضمار في مثل فعلوا وقتلوا وكان ما قبلها مضموما ولم
يكن في مثل عصوا ورموا فانها تكون وصلا لا غير فان جاء غير ذلك حسب من عيوب
الشعر التي تسمى الإكفاء والإجارة ونحو ذلك وقد وجدت في أشعار قريش شعرا منسوبا
إلى مروان بن الحكم قد جعل الواو فيه رويا في مثل دعوا ولقوا فإن صح ذلك فليس بأبعد
مما بني على الألف وذلك قليل نادر وانما معظم كلامهم أن تكون الواو في مثل هذا وصلا
كما قال زهير:
بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا وزودوك اشتياقا اية سلكوا
ثم جاء في القوافي بالملك والحشك واتبعها واو الترنم التي لا تجعل رويا بحال والأبيات
المنسوبة إلى مروان بن الحكم هي قوله:
هل نحن إلا مثل من كان قبلنا نموت كما ماتوا ونحيا كما حيوا
وينقص منا كل يوم وليلة ولا بد أن نلقى من الأمر ما لقوا
نؤمل أن نبقى وكيف بقاؤنا فهلا الألى كانوا مضوا قبلنا بقوا
فنوا وهم يرجون مثل رجائنا ونحن سنفنى مرة مثل ما فنوا
لنا ولهم يوم القياة موعد سندعى له يوم الحساب إذا دعوا
ويحبس منا من مضى لاجتماعنا بموطن حق ثم نجزى إذا جزوا
فمنهم سعيد سعدة ليس بعدها شقاء ومنهم بالذي قدموا شقوا
عموا عن هدى قصد السبيل عمى الذي رآه وقرن قد خلا قبلهم عموا
فهذا نادر قليل فإذا انفتح ما قبل الواو في مثل عصوا وغزوا وقضوا فالجماعة يجعلونها
رويا ولا يجيزون أن تكون وصلا وذلك مفقود في اشعار الفصحاء انما يجيء منه الشيء
النادر ولعلّه مصنوع ولو أنّ قائلا بني شعرا على مثل قضوا لآثرت له أن يلزم الضاد لأن ذلك
اقوى في المنطق وان لم يفعل فليس بابعد من تصييرهم الألف رويا. إلا ترى انك لو بنيت
الفواصل على دجى وحجى ورجا لكان الأقوى أن تجعل الجيم رويا والالف وصلا فإن
جعلت الألف رويا فلا بأس غير أن ما رويه الف اضعف مما رويه دال أو حاء أو غيرهما
من الحروف الصحاح ولو أن الرعي جعل الرويّ جعل الروي الحاء في قوله:
عجبت من السارين والريح قرة إلى ضوء نار بين فردة فالرحى
ثم اتى معها بالضحى واللحى لكان اقوى للنظم ولو أتى ع في مثل أبيات مروان بواو مفتوح
ما قبلها مثل عصوا ورموا لكان قد اخل اذ كانت الواو المتفوح ما قبلها لا تكون إلا رويا
والواو المضموم ما قبلها في مثل فعلوا لا تكون إلا وصلا وليس على الشذوذ تعويل
ولااعرف لاحد من أهل الفصاحة مثل أبيات مروان فأما واو يغزو ويخلو إذا كان ساكنة
فانهم يستعملونها وصلا وعلى ذلك سمعت اشعار المتقدمين كما قال زهير:
صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو واقفر من سلمى التعانيق والثقل
وقد كنت من سلمى سنين ثمانيا على صير امر ما يمر وما يحلو
ففيها قواف كثيرة قد اتبعها واو الترنم التي ليست للسنخ كقوله:
بلاد بها نادمتهم وعرفتهم فإن أقفرت منهم فإنهم يسل
والقياس لا يمنع أن تجعل هذه الواو رويا لانها سنخ وهي قوية ويجوز أن تلحقها الحركة في
حال النصب وهي اقوى من الواو التي للضمير في مثل قولك لم يألوا ولم يفعلوا وإذا خففت
الواو من عدو وغدو في القافية فلا يمتنع أن تجعل رويا وكونها وصلا اكثر وما بني على
الواو قليل جدا لان العرب انما كانت تتبع اشرف الكلم في السمع وقلما تجد قافية لها قوة
إلا وقد عمل عليها المتقدمون. واما الياء فلا تخلو من احد شيئين اما أن تكون متحركة
واما ساكنة فالمتحركة رويّ لا غير والساكنة تضعف كضعف الواو فاذا كانت للترنم لم يجز
أن تجعل رويا واذا كانت ساكنة وقلها ساكن فهي روي وذلك أن تبني القافية في التقييد
على مثل عصاي وهواي واذا كان ما قبلها متحركا وهي ساكنة فإن الأحسن فيها أن
تجيء وصلا على أي الحالات وجدت من كونها في سنخ الكلمة أو للضمير أو مخففة من
بائي النسب فالتي من النسخ كقول النابغة:
زعم الهمام ولم افقه بانه يشفى ببرد لثاتها العطش الصدي
فجاء بها مع غد ونحوها فجعلها وصلا . وياء الإضافة كقول الآخر:
ألا أيها الركب المخبون هل لكم بأخت بني نهد بهية من عهد
أألقت عصاها واستقرت بها النوى بأرض بني قابوس أم ظعنت بعدي
والمخففة من يائي النسب كقول الراجز:
تقول هند والذي يحيي أبي لقد سمعت صوت حاد عربي
ليس من النمر ولا من تغلب
وكذلك إذا خففت من مثل عدي وشقيّ فانها تجعل وصلا في الأكثر وربما جعلت هذه
الياآت كلا رويا وذلك في اشعار تضعف وليست هذه الياآت بأضعف من الألفات التي
بنيت عليها القصائد وهذه الأبيات تنسب إلى غير واحد من العرب:
اشاب الصغير وافنى الكبير مر الليالي وكرّ العشي
اذا ليلة هرّمت يومها أتى بعد ذلك يوم فتى
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقى
وقد رويت هذه الأبيات للصلتان العبدي ولقس بن ساعدة الإيادي ولغيرهما ويروى
للصلتان فيها:
بنجدية وحرورة وازرق يدعو إلى ازرقي
فملتنا أننا المسلمون على دين صديقنا والنبي
وقال الراجز:
إذا تغدّيت وطابت نفسي فليس في الحي غلام مثلي
إلا غلام قد تغدى قبلي
فجعل ياء الإضافة رويا إلا أن يحمل على مخالفة القوافي في الذي هو عيب. وإذا كان ما
قبل الياء مفتوحا وهي ساكنة فإنها تجعل رويا عند المتقدمين وذلك قليل جدا. ولو بنيت
قافية على أخشى وأعشى لكان لزوم الشين أقوى لها من أن يجيء معها مثل أغنى واحنى
فأما الألف إذا كانت للترنم أو بدلا من التنوين أو للتثنية أو مع هاء التأنيث فلا يجوز أن
تكون رويا وإذا كانت منالسنخ أو زائدة للتأنيث أو للالحاق ما كانت من ذلك فان كونها
رويا جائز وعلى ذلك جاءت قصائد العرب المتقدمين لا يفرقون بين الزائد والاصلي فيجوز
أن تبنى القصيدة على كرى وبكى وغضا والشنفرى وحبوكرى وهي التي تسميها الناس
اليوم مقصورة وأقوى من ذلك أن تجعل الراء في الكرى رويا وتجعل الألف وصلا وكذلك
ألف مغنى ومعزى يجوز أن يجيء معها الف جلندي وحبركي إلا أن الأحسن أن تجعل
الزاي في معزى رويا وتكون القصيدة على الزاي فهذه جملة من أحكام الحروف الأربعة
اللواتي يجوز أن يكن وصلا ورويا ثم حروف المعجم بعد ذلك متساويات في القوة إلا ما
ذكر من التاء والكاف فاما النون الخفيفة فلا يجوز أن تجعل رويا لان القافية موضع وقف
وهذه النون تصير في الوقف ألفا فان أريد بها الثقيلة إلا انها خففت للقافيةكما تخفف لام
اضل ودال اشد فلا بأس أن تجعل رويا لانها في نية المتقلة . والقوافي تنقسم ثلاثة أقسام
الذلل والنفر والحوش فالذلل ما كثر على الألسن هي عليه في القديم والحديث. والنفر ما هو
اقل استعمالا من غيره كالجيم والزاي ونحو ذلك. والحوش اللواتي تهجر فلا تستعمل وذلك
أن يتفق أن لا تخلو القافيه على كل الأوزان كأنا نقول انهم استحسنوا التقييد في الطويل
الثاني فاستعمل وكثر كما قال امرؤ القيس:
لعمرك ما قلبي إلى اهله بحر ولا مقصر يوما فيأتيني بقر
وكما قال طرفة:
لخولة بالاجزاع من اضم طلل وبالسفح من قو مقام ومرتحل
ولا يعلم شيء من الشعر القديم جاء فيه الطويل الأول مقيدا إلا أن يكون شاذا مرفوضا
وذلك في التمثيل كقوله:
كأني لم اركب جوادا للذة ولم اتبطن كاعبا زانها الخلخل
ولم اسباء الزق الروي ولم أقل لخيلي كري كرة بعد ما تخذل
فمثل هذا لم يأت في الشعر القديم ولا يوجد في دواوين الفحول من أهل الإسلام إلا أن
يجيء نادرا أو متكلفا وقد جاء في اشعار المحدثين شيء من الطويل الأول مبنيا على
الألف وهو الذي يسميه الناس المقصور فيقولون مقصورة فلان بعنون ما رويه الف. قال
الشاعر:
خرجنا من الدنيا ونحن من اهلها فما نحن بالاحياء فيها ولا الموتى
إذا ما أتانا زائر متفقد فرحنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
وهذا الشعر لرجل في السجن كان على عهد ملوك بني العباس ويقال انه لرجل من ولد
صالح بن عبد القدوس. وقد بنى أبو عبادة قصيدة على الطويل الأول وجعل قوافيها على
أروى وجدوى ونحو ذلك فلزم الواو إلى آخر القصيدة ولم يجعلها مقصورة. فهذه أن جعل
رويها الألف فقد لزم فيها ما لا يلزم وان جعل رويها الواو فالالف وصل وبناؤها على الواو
احسن واقوى في النظم. وفي هذا الكتاب اشياء تجري هذا المجري وقد بينتها في
مواضعها وقد يمكن أن يلزم القائل حرفين واكثر ولو بنيت قافية على دارهم ومزدارهم
وصدارهم لكان القائل قد لزم فيها اربعة احرف الدال والالف والراء والهاء لان الروي
الميم والالف ليست للتأسيس لان بينها وبين الروي حرفين. ولو بنيت قافية على ضرائرهم
وحرائرهم وما اشبه ذلك لكانت قد لزمت فيها خمسة احرف الراء الأولى والالف والهمزة
التي بعدها وهي في الصورة ياء والراء الثانية والهاء وقد كنت قلت في كلام لي قديم اني
رفضت الشعر رفض السقب غسره والرأل تريكته والغرض ما استجيز فيه الكذب
واستعين على نظامه بالشبهات فأما الكائن عظة للسامع وايقاظا للمتوسن وامراً بالتحرز من
الدنيا الخادعة واهلها الذين جبلوا على الغش والمكر فهو إن شاء الله مما يلتمس به الثواب
وأضيف إلى ما سلف من الإعتذار أن من سلك في هذا الأسلوب ضعف ما ينطق به من
النظام لانه يتوخى الصادقة ويطلب من الكلام البرة ولذلك ضعف كثير من شعر أمية بن
أبي الصلت الثقفي ومن اخذ بفريه من أهل الإسلام ويروى عن الأصمعي كلام معناه أن
الشعر باب من أبواب الباطل فإذا أريد به غير وجهه ضعف وقد وجدنا الشعراء توصلوا
إلى تحسين المنطق بالكذب وهو من القبائح وزينوا ما نظموه بالغزل وصفة النساء ونعوت
الخيل ولابل واوصاف الخمر وتسببوا إلى الجزالة بذكر الحرب واحتلبوا اخلاف الفكر وهم
أهل مقام وخفض في معنى ما يدعون انهم يعانون من حث الركائب وقطع المفاوز ومراس
الشقاء وهذا حيهن ابدأ بترتيب النظم وهو مائة وثلاثة عشر فصلا لكل حرف اربعة
فصول وهي على حسب حالات الروي من ضم وفتح وكسر وسكون وما الألف وحدها
فلها فصل واحد لأنها لا تكون إلا ساكنة وربما جئت في الفصل بالقطعة الواحدة أو
القطعتين ليكون قضاء حق للتأليف وبالله التوفيق