أقسمَتْ لا يَعْصِ جبَّارٌ هواها
الأبيات 86
أقســمَتْ لا يَعْـصِ جبَّـارٌ هواهـا أبَــدَ الـدهرِ وإنْ كـان إلهـا
لا ولا أفلَـــتَ منهـــا فــاتنٌ قرَّبَتْــهُ واحتــوتهُ قبضــتاها
قِيــلَ عنهــا إنّهــا ســاحرةٌ تتحــدَّى ســطوةَ الجـنِّ سـُطاها
وعجـــوزٌ بالصـــِّبا موعــودةٌ وبعمـرِ الـدهر موعـودٌ صـباها
حَــذِقَتْ عِلــمَ الأوالــي ووعـتْ قصــصَ الحــبِّ ومـأثورَ لغاهـا
قِيــلَ لا يُــذهِبُ عنهـا كيـدَها غيـرُ شـيطانٍ ولا يمحـو رُقاهـا
ورووا عنهــا أحــاديثَ هــوىً آثـمٍ يُغـرِبُ فيهـا مـن رواهـا
وأســــاطيرَ ليـــالٍ صـــُبِغَتْ بـــدماءٍ ســـفكتهنَّ يـــداها
يــذكرُ الركبـانُ عنهـا أنّهـا سـرقتْ مـن كـل حسـناءَ فتاهـا
وقتيــلٌ بيــن عينــيْ زوجــه كــلُّ معشــوقٍ دَعتــهُ فعصـاها
كلمـا التـذّتْ وصـالاً مـن فـتىً سـحرَتهُ وهـو فـي حِضـنِ هواهـا
واحتــوتهُ فــي أصــيصٍ زهـرةً يسـرِقُ الأنفـاسَ مـن طيب شذاها
زهــــراتٌ مثَّلـــتْ عشـــّاقها بعيــونٍ غرِقــاتٍ فــي كراهـا
فـإذا مـا الليـلُ أرخـى سِتره أطلقَـتْ أشـباحَهم فـي منتداها
مُهَجــــا خفّاقـــة ملتاعـــةً وعيونـــاً ظــامئاتٍ وشــفاها
تســتعيد الأمــسَ فـي لـذاتها ولياليهــا وأشــواقِ رُؤاهــا
تتلـــوّى بينهـــم مشـــبوبةً شــهوةً يلتهـمُ الليـلَ لظاهـا
عــبرَ الشـيطانُ يومـاً أُفقَهـا فــرأى ثـمَّ فنونـاً مـا رآهـا
أيُّ وادٍ رائعٍ أحجـــــــــارُهُ تحــذر الرّيـحُ عليهـنّ سـُراها
أيُّ قصـــرٍ بــاذخٍ فــي قمّــةٍ تحسـَبُ الأنجـمَ مـن بعـض ذُراها
ودروبٍ حولهـــــا ملتفّـــــةٍ كأفــاعٍ ســُمِّرتْ فـي منحناهـا
وبــــروجٍ لحمــــامٍ زاجـــلٍ هـو بالأقـدارِ يهفـو من كُواها
ظنَّهـــا مــن عبقــرٍ ناحيــةً أخطـأتْ عينـاهُ بـالأمس صـُواها
فهــوى مــن حــالقٍ يرتادُهـا طُرقــاتٍ زخــرفَ الفـنُّ حصـاها
ورنــا حيــث رنــا فاهتـاجه منظـرُ الزَّهـر الذي زان رباها
أُصـــص مـــن ذَهَــبٍ تحســبُها بعـثرتْ فيهـا الـدراريُّ سناها
كلمـــا مَســُّتْ يــداه زهــرةً عطفَتـــهُ لقطـــافٍ شـــفتاها
فجنَـى مـا شـاءَ حـتى لـم يَدَعْ فــي أصــيصٍ زهـرةً إلَّا جناهـا
وانتشـى مـن عطرهـا فـانتثرتْ مثـل حبَّـاتٍ مـن المـاس يراها
عجبـاً مـا لمسـتْ غيـرَ الـثرى أيُّ نــورٍ شـاعَ فيهـا فزهاهـا
نظـــرةٌ أو خطــرةٌ واختلجــتْ فعرتــهُ هِــزّةٌ ممــا عراهــا
واســتحالت بيـن عينيـه دُمـىً حيَّــةً تســتبقُ البـابَ خطاهـا
فُـكَّ عنهـا السـحرُ فارتدتْ إلى عــالم الحــسِّ وخفّـتْ قـدماها
ورنــا الشـيطانُ فـي آثارهـا سـابحاً فـي دهشـةٍ طـال مداها
يـا لهـا كيـف استقرت ثم فرّت لحظـة مـرت ولكـن مـا وعاهـا
ودنــا الليــلُ ورنّــتْ صـدحةٌ نبّهتـه حيـن لا يبغـي انتباها
فــــإذا مــــائدةٌ حافلـــةٌ بالأبــاريقِ ترامــى طرفاهــا
ملؤهــا الخمـرةُ نـوراً وشـذاً نَســَمَتْ وائتلقــتْ فخَّارتاهــا
وصـــحافٍ كتهاويـــلِ الــرؤى تجــد الأنفـسُ فيهـا مُشـتهاها
وإذا مقصـــورةٌ مـــن حــوله خالهـا تَنبـضُ بـالرُّوح دُماهـا
وقفــت غانيــةٌ فــي بابهــا قـد تعـرَّت غيـرَ فضـلٍ من حُلاها
يـا لهـا مـن فتنـةٍ قـد صُوّرَتْ فـي قـوام امـرأةٍ راع صـباها
طلعــتْ فــي هالـةٍ مـن خُضـرةٍ وعيـــونٍ يـــترقرقن مياهــا
ثـم نـادتْ يـا أحبَّـايَ انهضوا واغنمـوا الليلةَ حتى منتهاها
وتلاشــى الصــوتُ لا رجـعَ صـدىً لا ولا ثـــمَّ مُجيـــبٌ لنــداها
فعرتهـــا رِعـــدةٌ فــالتفتتْ فرأتْـــهُ فتلقّاهـــا وِجاهــا
أبصـرتْ وجهـاً كـوجه المسْخِ لم يَتَقنَّـعْ شـاهَ هـذا الوجهُ شاها
ورأت كفَّيـــهِ يَنــدى منهمــا أرَجُ الزَّهــر فــأجَّتْ نظرتاهـا
عرفــتْ مــا اجــترحتهُ يــدُهُ أو لا يعــرفُ مــن داسَ حماهـا
يــا لهـذا المسـخ دَوّتْ ومَشـَتْ صــيحةٌ ينـذر بالويـل صـداها
فـانثنى الشـيطانُ عنها صارخاً أتراهــا تتحــدَّى مـن تُراهـا
فبَـــدتْ فــي شــفتيها آيــةٌ مـن مُبين السِّحر أو ما فمحاها
فَـــدَنَتْ ترمقـــهُ فـــاختلجتْ عينــهُ حيــن أشـارتْ بعصـاها
بُــدِّلتْ تلــك العصــا جمجمـةً رِيــعَ لمّـا شـرَعتها فاتقاهـا
هــيَ مـن مَلْكـةِ جِـنٍّ مـن تُصـِبْ يخــترمهُ بالمنايـا محجراهـا
فتنحّـــى غاضـــباً مبتئســـاً وتنحَّــتْ والأســى يُلجِـمُ فاهـا
وســجى بينهمـا الصـمتُ الـذي يتغَشــّى الأرضَ إن حـان رداهـا
والتقــتْ عيناهمـا فاسـتروحا راحـةً مـن قبلهـا مـا عرفاها
عرفــتْ مـن هـو فاسـتخذتْ لـه ورأى مـن هـي فاسـتحيا قُواها
قـال أختـاهُ اغفـري لـي نظرةً إشــتهتْ كـلَّ جمـالٍ واشـتهاها
واغفــري لــي شــِرَّةً عارمــةً فـي دمـي لـو أتأبَّى ما أباها
يــا لهـذا الـدم مـا عنصـرُهُ كلُّ ما في النار من وَقْدِ لظاها
فأجـــابتْ زهراتـــي رُدَّهـــا إنْ تَقُـلْ حقـاً ولا تبـغ أذاهـا
قـــال لا أذكـــر إلا حُلُمـــاً لحظـةً ضـلَّ بهـا عقلـي وتاهـا
أهــيَ جِسـمٌ أهـي روحٌ إن تكـنْ لا يَـردُّ الـروحَ إلا مـن براهـا
فأحســـَّتْ هــول مــا يجهلــهُ فاسـتحت منـه وأغضـَى ناظراها
صـــاحَ غفرانُـــكِ لا تبتئســي أطلـبي مـا شـئتِ منِّي ما خلاها
أأنـــا مــن تتخَطّــى قــدَمي مَســبحَ الشـمس فيربـدُّ ضـحاها
أأنـا مـن يطفـئُ النجـمَ فمـي وأردُّ الأرضَ غرقــى فـي دُجاهـا
وتمــسُّ القمــمَ الشــمَّ يــدي فيُــرى منحـدِراً لـي مُرتقاهـا
وأجيـــءُ الأرضَ مــن محورهــا فــإذا بــي يتـدانى قطباهـا
وأصــدُّ الريــحَ عــن وجهتهـا فتجـوبُ الكـونَ لا تدري اتّجاها
أأرانــي عـاجزاً عـن دركِ مـا تتمنَّــى امــرأةٌ عـزّت مناهـا
آهِ مــا أضــعفَ سـلطاني ومـا كنـــتُ إلَّا بغــروري أتبــاهى
قــــالت الآن ســــلاماً زائري ورِضــى نفسـي إن رُمْـتَ رضـاها
أيهـا الشـيطانُ مـا أعظـم ما قُلْتَـهُ مـا قُلتَ لغواً أو سفاها
زهراتـي تلـك مـا كـانت سـوى شـهواتٍ جسـميَ الطـاغي نماهـا
قهرتنـــي واســتذلّتني بهــا غيــرَةٌ ينهـشُ قلـبي عقرباهـا
وأنانيــةُ أنــثى لــم تُطِــقْ فاتنــاً تملكـهُ أنـثى سـواها
قـد صـَنَعْت الحـقَّ قـد عاقبتني فـارحمِ المـرأةَ فـي ذُلِّ هواها
فــدنا منهــا فــألفتْ وجهـهُ غيـر مـا كانَ لقد ألفَتْ أخاها
قرّبـــتْ بينهمــا روحُ الأســى فـاجتبتهُ بعـدَ حِقـد واجتباها
واســتهلّت دمعــةٌ مـنْ عينهـا دمعــةٌ رفّــتْ وشـفّتْ قطرتاهـا
ضـــُمِّنتْ كـــلّ عــذاب وضــنىً كـلَّ ما في النفس من بثِّ أساها
ورآهــــا فتنــــدّتْ عينـــهُ رحمـةً فاحتـال يُخفي من بُكاها
وبكــى الشــيطانُ يـا لامـرأةٍ أبكـتِ الشـيطانَ لمَّـا أنْ رآها
علي محمود طه
155 قصيدة
1 ديوان

علي محمود طه المهندس.

شاعر مصري كثير النظم، ولد بالمنصورة، وتخرج بمدرسة الهندسة التطبيقية، وخدم في الأعمال الحكومية إلى أن كان وكيلاً لدار الكتب المصرية وتوفي بالقاهرة ودفن بالمنصورة.

له دواوين شعرية، طبع منها (الملّاح التائه)، (وليالي الملاح التائه) و(أرواح شاردة) و(أرواح وأشباه) و(زهر وخمر) و(شرق وغرب) و(الشوق المائد) و(أغنية الرياح الأربع) وهو صاحب (الجندول) أغنية كانت من أسباب شهرته.

1949م-
1369هـ-