هذا ديوان مَلقى السبيل وهو من نوادر دواوين أبي العلاء المعري الباقية، وقد رآه ابن العديم قديما ووصفه بقوله: (وكتاب ”مَلقَى السَّبيل“. وهو كتاب وعظٍ يشتمل على نثر ونظم على حروف المعجم، على كلِّ قافية فصل نثر، وأبياتُ شعر. مقداره كُرّاستان) وقال القفطي: مقداره أربع كراريس، وقال الذهبي وقد نقل كلام القفطي: (إنما مقداره ثمان ورقات، فكأنه يعني بالكراسة زوجين من الورق).
وقد رأيت نسخة مخطوطة منه في مكتبة المصطفى وتقع في 14 صفحة في سبع ورقات، عدا صفحة الغلاف، وهي متاحة للتحميل، وهي نسخة حديثة نسخت يوم 24 صفر من سنة 1304 للهجرة عن نسخة تحتفظ بها الكتبخانة الخديوية بمصر كما جاء في ختام النسخة، ويبدو أن هذه النسخة غير النسخة التي اعتمدها المرحوم حسن حسني عبد الوهاب في نشرته للديوان والتي نشرها له المرحوم محمد كرد علي في كتابه (رسائل البلغاء) (ص 214) وهي، والمنشورة في موقع المكتبة الشاملة، وقد مزجت أنا في هذه النشرة بين ما انفردت به كل نسخة، وأشرت إلى ذلك في آخر كل قصيدة، وعبرت عن النسخة المنشورة في مكتبة المصطفى بالنسخة الثانية، وتداركت ما وقع من أغلاط الطبع في الأولى ولم أشر إلى ذلك. ومعظم هذه القصائد لزوميات لا وجود لها في ديوانه (لزوم ما لا يلزم) وقد أشرت في أول كل لزومية إلى كونها لزومية، وقد يكون أبو العلاء قد التزم أن يجعل كل فاصلة في السجع قافية في الشعر، فإذا كان هذا صحيحا، دل ذلك على أن هناك أبياتا ساقطة من الديوان حسب الأسجاع المقدم بها لكل قطعة ومثال ذلك قافية التبريح في الحائية، و"الصراخ" في الخائية، والخوذة في الذالية، وهكذا دواليك. وأجمل قصائد الديوان القصيدة الصادية، وليست بلزومية، والأرجح أنه كتبها أثناء كتابة اللزوميات وقد تنوعت سجعاتها فكانت صادية ورائية وميمية، على غرار الزائية والسينية. وتليها في الرصانة الطائية. وأشهر قصائد الكتاب هي الزائية، فقد وردت برمتها في أخبار ابي العلاء في بغية الطلب لابن العديم، وفي سير أعلام النبلاء للذهبي قال:
(ومما يدل على صحة عقيدته ما سمعت الخطيب حامد بن بختيار، سمعت أبا المهدي بن عبد المنعم بن أحمد السروجي، سمعت أخي أبا الفتح القاضي يقول: دخلت على أبي العلاء التنوخي بالمعرة بغتةً، فسمعته ينشد:
كم غودرت غادةٌ كعابٌ وعمّرت أُمّها العجوز
أحرزها الوالدان خوفاً والقبر حرزٌ لها حريز
يجوز أن تخطئ المنايا والخلد في الدّهر لا يجوز
ثم تأوه مرات، وتلا قوله تعالى: "إنَّ في ذلكَ لآيةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الآخِرةِ" إلى قوله: "فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ". ثم صاح وبكى، وطرح وجهه على الأرض زماناً، ثم مسح وجهه، وقال: سبحان من تكلم بهذا في القدم ! سبحان من هذا كلامه ! فصبرت ساعةً، ثم سلمت، ثم قلت: أرى في وجهك أثر غيظ؟ قال: لا، بل أنشدت شيئاً من كلام المخلوق، وتلوت شيئاً من كلام الخالق، فلحقني ما ترى. فتحققت صحة دينه).
ولو عرفت وفاة أبي الفتح السروجي كان في ذلك ما يعتمد في تقدير تاريخ كتابة الديوان، ولكن وفاة أبي الفتح مجهولة كوفاة أخيه أبي المهذب.
وتلي الزائية في الشهرة المقصورة الأولى وقد رواها ابن العديم في بغية الطلب قال:
أنشدنا أبو اسحق ابراهيم بن عثمان بن يوسف بن أيوب الكاشغري قال: أنشدنا هبة الله بن يحيى بن الحسن بن البوقي الفقيه الشافعي قال: أنشدنا أبو محمد الحسن بن علي بن عمر قحف العلم قال: أنشدنا أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري لنفسه:
أما يفيق المرء من سكره = مجتهدأ في سيره والسرى
إلى آخر الأبيات.
وتليها في "بغية الطلب" قصيدة لأبي العلاء، الاحتمال الأكبر أنها من "ملقى السبيل" ولكنها غير موجودة فيه ولا أثر لها في الديوان وهي:
رغبت إلى الدنيا زماناً فلم تجد بغير عناءٍ والحياة بلاغ
وألقى ابنه اليأس المريح وبنته لدي فعندي راحة وفراغ
وزاد بلاء الناس في كل بلدةٍ أحاديث مما تفترى وتصاغ
تأمّلتها عصر الشباب فلم تسغ وليس لها بعد المشيب مساغ
ومن شرّ ما أسرجت في الصبح والدجى كميت لها بالراكبين مراغ
ولا وجود لهذه القافية على الطويل في شعر أبي العلاء غير هذه القصيدة. والبيت قبل الأخير إحدى روائع أبي العلاء الخالدة. وقوله في البيت الأخير بالراكبين، أي بالشاربين، وهي رواية ثانية للبيت، وشر ما أسرجت من السرج لا من السراج، كنى به عن الخمر وأراد الصبوح والغبوق.
وفي ترجمة أبي العلاء في "بغية الطلب" قصائد اخرى لا وجود لها في دواوينه المنشورة، ومنها بيتان قالهما وهو على فراش الموت حيث يروي ابن العديم بسنده إلى الشيخ أبي عبد الله الأصبهاني قال: لما حضرت الشيخ أبا العلاء الوفاة أتاه القاضي الأجل أبو محمد عبد الله التنوخي بقدح شراب فامتنع من شربه فحلف القاضي أيماناً مؤكدة لا بد من أن يشرب ذلك القدح وكان سكنجبين، فقال أبو العلاء مجيباً له عن يمينه:
أعبد الله خير من حياتي وطول ذمائها موتٌ صريح
تعلّلني لتشفيني فذرني لعلي أستريح وتستريح
ولابن السيد البطليوسي (444 – 521هـ) كتاب شرح فيه (ملقى السبيل) وصلتنا قطعة منه، وهي منشورة على الشبكة بعناية الأستاذ د. أيمن ميدان بعنوان "الباقي من شرح ملقى السبيل" و"ملقى" بفتح الميم والقاف، ، اسم مصدر من لقِي يلقى، وقد اختار إسماعيل مظهر (1891 – 1962م) صاحب مجلة العصور نفس عنوان كتاب أبي العلاء لكتابه "مَلقى السبيل" وموضوعه في مذهب النشوء والارتقاء. وأراد بهذه التسمية الدعوة إلى سبيل وسط، يلتقي فيها العقل والدين فيما يخص نظرية داروين. ولكن لا يستبعد أن يكون معنى (ملقى السبيل) حيث تلقي الرحالة برحلها، وبذلك تكون (ملقى) بضم الميم وفتح القاف اسم موضع من فعل ألقى يُلقي، ومنه قول العكوك: (إلى مجتمع النيل = ومُلقىَ أرحل الركب) وقول أبي تمام: (مُلقى الرَجاءِ وَمُلقى الرَحلِ في نَفَرٍ = الجودُ عِندَهُمُ قَولٌ بِلا عَمَلِ) وقول الحيص بيص: (ومبرك أنضاءٍ ومُلقى سوابغِ = ومسحب أرماحٍ ومنْضى سوابق) وقول الشريف المرتضى: (مُعَرَّسُ أسراري إذا ما تَقَلْقَلَتْ= ومَلْقى همومي خالياً وشُجوني) وقول الطغرائي: (أبَى لي قبولَ الضيمِ مطمحُ هِمَّتِي= ومُلقى قَتودي والأمونُ المُنَوَّخُ) ومن ذلك (ملقى الظعن) وهو أحد أيام العجوز، كما لا يستبعد أيضاً أن يكون المعنى، الميت الملقى على الطريق، وتكون (ملقى) في هذه الحالة اسم مفعول من ألقى، ويؤيد ذلك موضوع ديوان أبي العلاء إذ كل قصائده نصائح تتعلق بالاستعداد للموت والتزهيد بالدنيا، ويؤيد ذلك القطعة الحائية وقوله: في مقدمتها: (سوف يمرض من القوم صحيح. تعصف بعقله ريح. فإذا هو لقى طريح. ثم يحفر له ضريح). كما لا يستبعد أن يكون الملقى هو ما تعنيه الآية (يلقى إليك وحيه) فيكون معنى العنوان (خواطر الطريق) ولكن المختار والمشهور والمتواتر هو المعنى الأولى الذي سمى به إسماعيل مظهر كتابه. وإذا كان أبو العلاء قد كتب هذا الديوان في أيامه الأخيرة فقد كتبه في واحدة من أقتم سنوات التاريخ سوادا وأطولها سقوطا ودمارا ففيها كان سقوط بغداد المروع ما بين بني بويه وبني سلجوق، وحروبهما الطاحنة الممتدة من همذان إلى حلب. وكان دخول طغرلبك إلى بغداد في رمضان من سنة 447هـ ولم يذكر أبو العلاء المعري في لزومياته شيئا من هذه الحوادث، وتوفي أثناءها ليلة الجمة 3/ ربيع الأول/ من عام 449هـ
قال المرحوم حسن حسني عبد الوهاب في التعريف بالنسخة التي اعتمدها:
أما النسخة التي اعتمدنا عليها في النقل فهي محفوظة بمكتبة الأسكوريال من بلاد الأندلس تحت نمرة 467 وهي بخط الراوي لها القاضي الإمام الشريف أبي محمد عبد الله ابن القاضي أبي الفضل عبد الرحمن بن يحيى الديباجي العثماني رسمها بالإسكندرية أوائل القرن السادس وقد اعتنى برسمها وضبط جملها بطريقة ثابتة مدققة وهي فيما اعتقده أقدم نسخة لملقى السبيل ولا يبعد أن تكون هي التي عول عليها أدباء الأندلس في معارضتهم لها فقد جاء في نفح الطيب أن الحافظ أبا الربيع الكلاعي الأندلسي المتوفى بالجهاد سنة 634 هـ. عارض هذه الرسالة بتأليف سماه مفاوضة القلب العليل ومنابذة الأمل الطويل بطريقة المعري في ملقى السبيل. كما تحتوي مكتبة الأسكوريال نفسها عَلَى كتاب (نمرة 519) من وضع الكاتب الشهير أبي عبد الله محمد بن أبي الخصال وزير يوسف بن تاشفين سلطان المرابطين عارض به ملقى السبيل أيضاً. ومن جهة أخرى يوجد بمقدمة النسخة التي لدينا وهي كما قدمنا صورة فوتوغرافية من الأصل الأندلسي كثير من الإجازات تنبئ بقراءَة هذه الرسالة عَلَى أساتذة متضلعين تلتحق رواياتهم بالراسم الأول نعني عبد الله الديباجي. وأقدم توقيع من هذا النمط مؤرخ سنة 562 وهو مما يستدل به أيضاً عَلَى اهتمام الأندلسيين بتآليف المعري. وعسى أن ننشر فيما بعد رسائل أخرى من وضع هذا الفيلسوف الشاعر والله ولي التوفيق. تونس 10 ربيع الأنور 1329 ح. ح. عبد الوهاب